قصة تمام بن جعفر
كان تمام بن جعفر بخيلاً على الطعام مفرط البخل.
وكان يقبل على كل من أكل خبزه بكل علة ويطالبه بكل طائلة وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن جلاد الدم.
وكان إن قال له نديم له: ما في الأرض أحد أمشي مني ولا على ظهرها أحد أقوى على الحضر مني! قال: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة وهل يحمل الرجل إلا البطن لا حمد الله من يحمدك! فإن قال: لا والله إن أقدر أن أمشي لأني أضعف الخلق عنه وإني لأنبهر من مشى ثلاثين خطوة! قال: وكيف تمشي وقد جعلت في بطنك ما يحمله عشرون حمالاً! وهل ينطلق الناس إلا مع خفة الأكل وأي بطين بقدر على الحركة وإن الكظيظ ليعجز عن الركوع والسجود فإن شكا ضرسه وقال: ما نمت البارحة مع وجعه وضربانه قال: عجبت كيف اشتكيت واحداً وكيف لم تشتك الجميع! وكيف بقيت إلى اليوم في فيك حاكة! وأي ضرس يقوى على الدرس والطحن! والله إن الأرحاء السورية لتكل وإن الميجان الغليظ ليتعبه الدق! ولقد استبطأت لك هذه العلة! ارفق فإن الرفق يمن ولا تخرق بنفسك فإن الخرق شؤم! وإن قال: لا والله إن اشتكيت ضرساً لي قط ولا تجلجل لي سن عن موضعه منذ عرفت نفسي قال: يا مجنون! لأن كثرة المضغ تشد العمور وتقوي الأسنان وتدبغ اللثة وتغدو أصولها.
وإعفاء الأضراس من المضغ يريحها.
وإنما الفم جزء من الإنسان.
وكما الإنسان نفسه إذا تحرك وعمل قوى وإذا طال سكونه تفتخ واسترخى فكذلك الأضراس.
ولكن رفقاً! فإن الإتعاب ينقص القوة.
ولكل شيء مقدار ونهاية.
فهذا ضرسك لا تشتكيه بطنك أيضاً لا تشتكيه فإن قال: والله إن أروى من الماء.
وما أظن أن في الدنيا أحداً أشرب مني للماء قال: لابد للتراب من ماء ولابد للطين من ماء يبله ويرو.
أوليست الحاجة على قدر كثرته وقلته والله لو شربت ماء الفرات ما استكثرته لك مع ما أرى من شدة أكلك وعظم لقمتك! تدري ما قد تصنع أنت والله تلعب! أنت لست ترى نفسك! فسل عنك من يصدقك حتى تعلم أن ماء فإن قال: ما شربت اليوم ماء البتة وما شربت أمس بمقدار نصف رطل وما في الأرض إنسان أقل شرباً مني للماء قال: لأنك لا تدع لشرب الماء موضعاً! ولأنك تكنز في جوفك كنزاً لا يجد الماء معه مدخلاً! والعجب لا تتخم لأن من لا يشرب الماء على الخوان لا يدري مقدار ما أكل ومن جاوز مقدار الكفاية كان حرياً بالتخمة.
فإن قال: ما أنام الليل كله وقد أهلكني الأرق قال: وتدعك الكظة والنفخة والقرقرة أن تنام والله لو لم يكن إلا العطش الذي ينبه الناس لما نمت.
ومن شرب كثيراً بال كثيراً.
ومن كان الليل كله بين شرب وبول كيف يأخذه النوم فإن قال: ما هو إلا أن أضع رأسي فإنما أنا حجر ملقى إلى الصبح قال: ذلك لأن الطعام يسكن ويخدر ويحير ويبل الدماغ ويبل العروق ويسترخي عليه جميع البدن.
ولو كان في الحق لكان ينبغي أن تنام الليل والنهار! فإن قال: أصبحت وأنا لا أشتهي شيئاً قال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً فإن أكل القليل على غير شهوة أضر من الكثير مع الشهوة.
قال الخوان: ويل لي ممن قال: لا أريد! وبعد وكيف تشتهي الطعام اليوم وأنت قد أكلت بالأمس طعام عشرة! وكان كثيراً ما يقول لندمائه: إياكم والأكل على الخمار فإن دواء الخمار الشراب.
الخمار تخمة.
والمتخم إذا أكل مات لا محالة.
وإياكم والإكثار في عقب الحجامة والفصد والحمام.
وعليكم بالتخفيف في الصيف كله.
واجتنبوا اللحم خاصة.
وكان يقول: ليس يفسد الناس إلا الناس: هذا الذي يتكلم بالكلام البارد وبالطرف المستنكرة لو لم يصب من يضحك له وبعض من يشكره ويتضاحك له - أوليس هو عنده إلا أن يظهر العجب له - لما تكلف النوادر.
ألا أهلك قول الناس للأكول النهم وللرغيب الشره: فلان حسن الأكل! هو الذي أهلكه وزاد في رغبته حتى جعل ذلك صناعة وحتى ربما أكل - لمكان قولهم وتقريبهم وتعجبهم - ما لا يطيقه فيقتل.
فلا يزال قد هجم على قوم فأكل زادهم وتركهم بلا زاد! فلو قالوا بدل قولهم: فلان حسن الأكل: فلان أقبح الناس أكلاً كان ذلك صلاحاً لفريقين.
ولا يزال البخيل على الطعام قد دعا الرغيب البطن واتخذ له الطعام الطيب لفي عن نفسه المقالة وليكذب عن نفسه تلك الظنون.
ولو كان شدة الضرس يعد في المناقب ويمدح صاحبه في المجالس لكان الأنبياء آكل الخلق ولخصهم الله - جل ذكره - من الرغب بما لم يعطه أحداً من العالمين.
وكيف وفي مأثور الحديث: ( إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن المنافق يأكل في سبعة أمعاء ).
أولسنا قد نراهم يشتمون بالنهم وبالرغب وبكثرة الأكل ويمدحون بالزهادة وبقلة الطعام أوليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أدله على الحسناء القتين وقد ساب رجل أيوب ابن سليمان بن عبد الملك فقال في بعض ما يسبه: ماتت أمك بغراً وأبوك بشماً! وبعد فهل سمعتم بأحد قط فخر بشدة أكل أبيه فقال: أنا ابن آكل العرب بل قد رأينا أصحاب النبيذ والفتيان يتمدحون بكثرة الشرب كما يتمدحون بقلة الرزق.
ولذلك قالت العرب: قال الشاعر: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر وقال: لا يتأرى لما في القدر يطلبه ولا تراه أمام القوم يقتفر وقال: لا يغمز الساق من أين ولا وصم ولا يعض على شرسوفه الصفر والصفر هي حيات البطون إنما تكون من الفضول والتخم ومن الفساد والبشم.
وشرب مرة نبيذ وغناه المغنى فشق قميصه من الطرب.
فقال لمولى له له يقال له المحلول وهو إلى جنبه: شق أيضاً أنت - ويلك - قميصك! - والمحلول هذا من الآيات - قال: لا والله لا أشقه وليس لي غيره.
قال: فشقه وأنا أكسوك غداً.
قال: فأنا أشقه غداً.
قال: أنا ما أصنع فلم أسمع بإنسان يقايس ويناظر في الوقت الذي إنما يشق فيه القميص من غلبة الطرب غيره وغير مولاه محلول.
دخل على الأعمى على يوسف بن كل خير وقد تغدى.
فقال: يا جارية هاتي لأبي الحسن غداء.
قالت: لم يبق عندنا شيء.
قال: هاتي - ويلك! - ما كان فليس من أبي الحسن حشمة! ولم يشك على أنه سيؤتي برغيف ملطخ وبرقاقة ملطخة وبسكر وبقية مرق وبعرق وبفضلة شواء وببقايا ما يفضل في الجامات والسكرجات.
فجاءت بطبق ليس عليه إلا رغيف أرز قاحل لا شيء غيره.
فلما وضعوا الخوان بين يديه فأجال يده فيه وهو أعمى فلم يقع إلا على ذلك الرغيف وقد عل أن قوله: ليس منه حشمة لا يكون إلا مع القليل.
فلم يظن أن الأمربلغ ذلك.
فلما لم يجد غيره قال: ويلكم! ولأكل هذا بمره رفعتم الحشمة كلها والكلام لم يقع إلا على هذا حدثني محمد بن حسان الأسود قال: أخبرني زكريا القطان قال: كان للغزال قطعة أرض قدام حانوتي فأكرى نصفها من سماك يسقط عنه ما استطاع من مؤنة الكراء.
قال: وكان الغزال أعجوبة في البخل.
وكان يجيء من منزله ومعه رغيف في كمه.
فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم.
فإذا أعيا عليه الأمر أخذ من ساكنه جوافة بحبة وأثبت عليها فلساً في حسابه! فإذا أراد أن يتغدى أخذ الجوافة فمسحها على وجه الرغيف ثم عض عليه! وربما فتح بطن الجوافة فيطر جنبيها وبطنها باللقمة بعد اللقمة! فإذا خاف أن ينهكها ذلك وينضم بطنها طلب من ذلك السماك شيئاً من ملح السمك فحشا جوفها لينفخها وليوهم أن هذا هو ملحها الذي ملحت به! ولربما غلبته شهوته فكدم طرف أنفها وأخذ من طرف الأرنبة ما يسيغ به لقمته! وكان ذلك منه لا يكون إلا في آخر لقمة ليطيب فمه بها! ثم يضعها في ناحية.
فإذا اشترى من امرأة غزلاً أدخل تلك الجوافة في ثمن الغزل من طريق إدخال العروض وحسبها عليها بفلس فيسترجع رأس المال ويفضل الأدم.
وروى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشيء يجلس إلي.
وكان ربما انصرف معي إلى المنزل فيتغذى معنا ويقيم إلى أن يبرد.
وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال.
فألح علي في الاستزارة وصممت عليه في الامتناع.
فقال: جعلت فداك! أنت تظن أني ممن يتكلف وأنت تشفق علي! لا والله! إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب! فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه.
وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات.
ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه.
وما أظن أن أحداً يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنة ثم يأتيه بكسرات وملح.
فلما صرت عنده وقربه إلي إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة! قال: بورك فيك! فأعاد الكلام فأعاد عليه مثل ذلك القول.
فأعاد عليه السائل فقال: اذهب - ويلك! - فقد ردوا عليك.
فقال السائل: سبحان الله! ما رأيت كاليوم أحداً يرد من لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب - ويلك! - وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرح نفسك فإنك لو تعرف من صدق وعبده مثل الذي أعرف لما وقفت طرفة عين بعد رده إياك! وكان أبو يعقوب الذقنان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال.
وكان إذا كان يوم الجمعة اشترى لحم بقر بدرهم واشترى بصلاً بدانق وباذنجاناً بدانق وقرعة بدانق.
فإذا كان أيام الجزر فجزر بدانق! وطبخه كله سكباجاً.
فأكل وعياله يومئذ خبزهم بشيء من رأس القدر وما ينقطع في القدر من البصل والباذنجان والجزر والقرع والشحم واللحم.
فإذا كان يوم السبت ثردوا خبزهم في المرق.
فإذا كان يوم الأحد أكلوا البصل.
فإذا كان يوم الاثنين أكلوا الجزر.
فإذا كان يوم الثلاثاء أكلوا القرع.
فإذا كان يوم الأربعاء أكلوا الباذنجان.
فإذا كان يوم الخميس أكلوا اللحم.
فلهذا كان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال! قال أصحابنا: نزلنا بناس من أهل الجزيرة وإذا هم في بلاد باردة وإذا حطبهم شر حطب وإذا الأرض كلها غابة واحدة طرفاء.
فقلنا: ما في الأرض أكرم من الطرفاء.
قالوا: هو كريم ومن كرمه نفر.
فقلنا: وما الذي تفرون منه قالوا: دخان الطرفاء يهضم الطعام وعيالنا كثير! وقد عاب ناس أهل المازح والمديبر بأمور: منها أن خشكانهم من دقيق شعير وحشوه الذي فيه من الجوز والسكر من دقيق خشكار.
وأهل المازج لا يعرفون بالبخل.
ولكنهم أسوأ الناس حالاً.
فتقديرهم على قدر عيشهم.
وإنما نحكي عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب.
فأما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف إلا الضيق فليس سبيله سبيل القوم.
قال المكي: كان لأبي عم يقال له سليمان الكثري.
سمى بذلك لكثرة ماله.
وكان يقربني وأنا صبي إلى أن بلغت.
ولم يهب لي مع ذلك التقريب شيئاً قط.
وكان قد جاوز في ذلك حد البخلاء.
فدخلت عليه يوماً وإذا قدامه قطع دار صيني لا تسوى قيراطاً.
فلما نال حاجته منها مددت يدي لآخذ منها قطعة.
فلما نظر إلي قبضت يدي! فقال: لا تنقبض وانبسط واسترسل.
وليحسن ظنك فإن حالك عندي على ما تحب! فخذه كله فهو لك بزوبره وبحذافيره! وهو لك جميعاً! نفسي بذلك سخية! والله أعلم أني مسرور بما وصل إليك من الخير! فتركته بين يديه وقمت من عنده وجعلت وجهي كما أنا إلى العراق! فما رأيته وما رآني حتى مات.
وقال المكي: سمعني سليمان وأنا أنشد شعر امرئ القيس: لنا غنم نسوقها غزار كأن قرون جلتها العصي فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً وحسبك من غنىً شبع وروي قال: لو كان الذي قال ليحيى بن خالد حين نقب في أبي قبيس وزاد في داره: عمدت إلى شيخ الجبال فزعزعته وثلمت فيه.
وقال حين عوتب في قلة الضحك وشدة القطوب: إن الذي يمنعني من الضحك أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل إذا ضحك وطابت نفسه! صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلاً.
فلما صرت قرب منزله - وكان منزله أقرب إلى مسجد الجامع من منزلي - سألني أن أبيت عنده.
وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد ومنزلي منزلك وأنت في ظلمة وليس معك نار وعندي لباً لم ير الناس مثله وتمر ناهيك به جودة لا تصلح إلا له! فملت معه فأبطأ ساعة.
ثم جاءني بجام لبإ وطبق تمر.
فلما مددت قال: يا أبا عثمان إنه لبإ وغلظه! وهو الليل وركوده! ثم ليلة مطر ورطوبة وأنت رجل قد طعنت في السن.
ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً.
وما زال الغليل يسرع إليك.
وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء! فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك.
ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك.
وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك ولم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً.
وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً: كان وكان! والله وقد وقعت بين نابي أسد! لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك قلت: بخل به وبدا له فيه.
وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت: لم يشفق علي ولم ينصح.
فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً.
وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة! فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة.
ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فيما أظن.
ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضى علي.
ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب.
وقال أبو القماقم: أول الإصلاح ألا يرد ما صار في يدي لك فإن كان ما صار في يدي لي فهو لي وإن لم يكن لي فأنا أحق به ممن صيره في يدي! ومن أخرج من يده شيئاً إلى يد غيره من غير ضرورة فقد أباحه لمن صيره إليه! وتعريفك إياه مثل إباحته.
وقالت له امرأة: ويحك يا أبا القماقم! إني قد تزوجت زوجاً نهارياً والساعة وقته.
وليست على هيئته.
فاشتر لي بهذا الرغيف أساً وبهذا الفلس دهناً فإنك تؤجر! فعسى الله أن يلقي محبتي في قلبه فيرزقني على يدك شيئاً أعيش به فقد والله ساءت حالي وبلغ المجهود مني - فأخذهما وجعله وجهه! فرأته بعد أيام فقالت: سبحان الله! أما رحمتني مما صنعت بي! قال: ويحك! سقط والله مني الفلس فمن الغم أكلت الرغيف! وتعشق واحدة فلم يزل يتبعها ويبكي بين يديها حتى رحمته.
وكانت مكثرة وكان مقلاً.
فاستهداها هريسة وقال: أنتم أحذق بها! فلما كان بعد أيام تشهى عليها رءوساً.
فلما كان بعد قليل طلب منها حيسة.
فلما كان بعد ذلك تشهى عليها طفيشلية.
قالت المرأة: رأيت عشق الناس يكون في القلب وفي الكبد وفي الأحشاء.
وعشقك أنت ليس يجاوز معدتك! وقال أبو الأصبغ: ألح أبو القماقم على قوم عند الخطبة إليهم يسأل عن مال امرأة ويحصيه ويسأل عنه.
فقالوا: قد أخبرناك بما لها فأنت أي شيء مالك قال: وما سؤالكم عن مالي الذي لها يكفيني ويكفيها! سمعت شيخاً من مشايخ الأبلة يزعم أن فقراء أهل البصرة أفضل من فقراء أهل الأبلة.
قلت: بأي شيء فضلتم قال: هم أشد تعظيماً للأغنياء وأعرف بالواجب.
ووقع بين رجلين أبليين كلام فأسمع أحدهما صاحبه كلاماً غليظاً فرد عليه مثل كلامه.
فرأيتهم قد أنكروا ذلك إنكاراً شديداً ولم أر لذلك سبباً.
فقلت: لم أنكرتم أن يقول له مثل ما قال قالوا: لأنه أكثر منه مالاً.
وإذا جوزنا هذا له جوزنا لفقرائنا أن يكافئوا أغنياءنا ففي هذا الفساد كله! وقال حمدان بن صباح: كيف صار رياح يسمعني ولا أسمعه أفهو أكثر مالاً مني ثم قال: ويكون الزائر من أهل البصرة عند الأبلى مقيماً مطمئناً.
فإذا جاء المد قالوا: ما رأينا مداً قط ارتفع ارتفاعه.
وما أطيب السير في المد! والسير في المد إلى البصرة أطيب من السير في الجزر إلى الأبلة! فلا يزالون به حتى أن من الرأي أن يغتنم ذلك المد بعينه! كان أحمد الخاركي بخيلاً وكان نفاجاً.
وهذا أغيظ ما يكون.
وكان يتخذ لكل جبة أربعة أزرار ليرى الناس أن عليه جبتين ويشتري الأعذاق والعراجين والسعف من الكلاء فإذا جاء الحمال إلى بابه تركه ساعة يوهم الناس أن له من الأرضين ما يحتمل أن يكون ذلك كله منها.
وكان يكتري قدور الخمارين التي تكون للنبيذ ثم يتحرى أعظمها ويهرب من الحمالين بالكراء كي يصيحوا بالباب: يشترون الداذي والسكر ويحبسون الحمالين بالكراء! وليس في منزله رطل دبس! وسمع قول الشاعر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا عنا ولكن خفت مرزئة الذباب فقال: ولم ذب عنهم لعنه الله! ما أعلم إلا أنه شهى إليهم الطعام ونظف لهم القصاع وفرغهم له وسخرهم عليه! ثم ألا تركها تقع في قصاعهم وتسقط على آنافهم وعيونهم! هو والله أهل لما هو أعظم من هذا! كم ترون من مرة قد أمرت الجارية أن تلقي في القصعة الذبابة والذبابتين والثلاثة حتى يتقزز بعضهم ويكفي الله شره! قال: وأما قوله: رأيت الخبز عز لديك حتى قال: فإن لم أعز هذا الشيء الذي هو قوام أهل الأرض وأصل الأقوات وأمير الأغذية فأي شيء أعز إي والله إني أعزه وأعزه وأعزه وأعزه مدى النفس ما حملت عيني الماء.
وبلغ من نفجه مع ذلك ما أخبرني به إبراهيم بن هانئ قال: كنت عنده يوماً إذ مر به بعض الباعة فصاح الخوخ الخوخ! فقلت: وقد جاء الخوخ بعد قال: نعم قد جاء وقد أكثرنا منه.
فدعاني الغيظ عليه إلى أن دعوت البياع وأقبلت على ابن الخاركي فقلت: ويحك! نحن لم نسمع به بعد وأنت قد أكثرت منه! وقد تعلم أن أصحابنا أترف منك! ثم أقبلت على البياع فقلت: كيف تبيع الخوخ فقال: ستة بدرهم قلت: أنت ممن يشتري ست خوخات بدرهم وأنت تعلم أنه بياع بعد أيام مائتين بدرهم ثم تقول: وقد أكثرنا منه وهذا يقول: ستة بدرهم قال: وأي شيء أرخص من ستة أشياء بشيء كان غلام صالح بن عفان يطلب منه لبيت الحمار بالليل.
فكان يعطيه كل ليلة ثلاثة أفلس - والفلوس أربعة طسوج - ويقول: طسوج يفضل وحبة تنقص وبينهما يرمي الرامي! وكان يقول لابنه: تعطي صاحب الحمام وصاحب المعبر لكل واحد منهما طسوجاً وهو إذا لم ير معك إلا ثلاثة أفلس لم يردك قال أبو كعب: دعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه ليفطروا عنده في شهر رمضان.
وكنت فيهم.
فلما صلينا المغرب ونجز ابن جناح أقبل علينا ثم قال: لا تعجلوا فإن العجلة من الشيطان.
وكيف لا تعجلون وقد قال الله جل ذكره: وكان الإنسان عجولاً وقال: خلق الإنسان من عجل - اسمعوا ما أقول فإن فيما أقول حسن المؤاكلة والبعد من الأثرة والعاقبة الرشيدة والسيرة المحمودة.
وإذا مد أحدكم يده إلى الماء فاستسقى - وقد أتيتم ببهطة أو بجوذابة أو بعصيدة أو ببعض ما يجري في الحلق ولا يساغ بالماء ولا يحتاج فيه إلى مضغ وهو طعام يد لا طعام يدين وليست على أهل اليد منه مؤنة وهو مما يذهب سريعاً - فأمسكوا حتى يفرغ صاحبكم فإنكم تجمعون عليه خصالاً: منها أنكم تنغصون عليه بتلك السرعة إذا علم أنه لا يفرغ إلا مع فراغكم.
ومنها أنكم تخنقونه ولا يجد بداً من مكافأتكم فلعله أن يتسرع إلى لقمة حارة فيموت وأنتم ترونه.
وأدنى ذلك أن تبعثوه على الحرص وعلى عظم اللقم.
ولهذا ما قال الأعرابي حين قيل له: لم تبدأ بأكل اللحم الذي فوق الثريد قال: لأن اللحم ظاعن والثريد مقيم! قال أبو كعب: فربما نسي بعضنا فمد يده إلى القصعة وقد مد يده صاحبه إلى الماء فيقول له موسى: يدك يا ناسي! ولولا شيء لقلت لك: يا متغافل! قال: وأتانا بارزة.
ولو شاء إنسان أن يعد حبها لعده لتفرقه ولقلته.
قال: فنثروا عليها ليلة من ذلك مقدار نصف سكرة.
فوقعت ليلتئذ في قطعة وكنت إلى جنبه فسمع صوتها حين مضغتها فضرب يده على جنبي ثم قال: اجرش يا أبا كعب اجرش! قلت: ويلك! أما تتقي الله! كيف أجرش جزءاً لا يتجزأ. قصة ابن العقدى
كان ابن العقدى ربما استزار أصحابه إلى البستان.
وكنت لا أظنه ممن يحتمل قلبه ذلك على حال.
فسألت ذات يوم بعض زواره فقلت: احك لي أمرك.
قال: وتستر علي قلت: نعم ما دمت بالبصرة.
قال: يشتري لنا أرزاً بقشره ويحمله معه ليس معه شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز! فإذا صرنا إلى أرضه كلف أكاره أن يجشه في مجشة له ثم ذراه ثم غربله ثم جش الواش منه.
فإذا فرغ من الشراء والحمل ثم من الجش ثم من التذرية ثم من الإدارة والغربلة ثم من جش الواش ثم من تذريته ثم من إدارته وغربلته كلف الأكار أن يطحنه على ثوره وفي رحاه.
فإذا طحنه كلفه أن يغلي له الماء وأن يحتطب له.
ثم يكلفه العجن لأنه بالماء الحار أكثر نزلاً.
ثم كلف الأكار أن يخبزه.
وقبل ذلك ما قد كلفهم أن ينصبوا له الشصوص للسمك ويسكروا الدرياجة على صغار السمك لا يدخلوا في السواقي فيدخلوا أيديهم في حجرة الشلابي والرمان.
فإن أصبنا من السمك شيئاً جعله كباباً على نار الخبز تحت الطابق حتى لا يحتاج من الحطب إلى كثير.
فلا نزال منذ غدوة إلى الليل في كد وجوع وانتظار.
ثم لا يكون عشاؤنا إلا خبز أرز أسود غير منخول - بالشلابي.
ولو قدر على غير ذلك فعل.
قلت له: فلم لا يتخذ موضع مذار من بعض دقاق أرضه فيذري لكم الأرز ثم يكون الخيار في يده إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري.
قال: والله لئن سمع هذا وعرفه ليتكلفه.
الله الله فينا فإنا قوم مساكين! ولو قدرنا على شيء لم نحتمل هذا البلاء! حدثني المكي قال: بت عند إسماعيل بن غزوان.
وإنما بيتني عنده حين علم أني تعشيت عند مويس وحملت معي قربة نبيذ.
فلما مضى من الليل أكثره وركبني النوم جعلت فراشي البساط ومرفقتي يدي وليس في البيت إلا مصلى له ومرفقة ومخدة.
فأخذ المخدة فرمى بها إلي فأبيتها ورددتها عليه.
وأبى وأبيت.
فقال: سبحان الله! يكون أن تتوسد مرفقك وعندي فضل مخدة فأخذتها فوضعتها تحت خدي فمنعني من النوم إنكاري للموضع ويبس فراشي.
وظن أني قد نمت.
فجاء قليلاً قليلاً حتى سل المخدة من تحت رأسي.
فلما رأيته قد مضى بها ضحكت وقلت: قد كنت عن هذا غنياً! قال: إنما جئت لأسوي رأسك! قلت: إني لم أكلمك حتى وليت بها.
قال: كنت لهذا جئت فلما صارت المخدة في يدي نسيت ما جئت له! والنبيذ - ما علمت - والله يذهب بالحفظ أجمع! وحدثني الحزامي والمكي والعروضي قالوا: سمعنا إسماعيل يقول: أوليس قد أجمعوا على أن البخلاء في الجملة أعقل من الأسخياء في الجملة ها نحن أولاء عندك جماعة فينا من يزعم أنه سخي وفينا من يزعم أنه بخيل.
فانظر أي الفريقين أعقل هأنذا وسهل بن هارون وخاقان بن صبيح وجعفر بن سعيد والحزامي والعروضي وأبو يعقوب الخريمي فهل معك إلا أبو إسحاق وحدثني المكي قال: قلت لإسماعيل مرة: لم أر أحداً قط أنفق على الناس من ماله فلما احتاج إليهم آسوه.
قال: لو كان ما يصنعون لله رضاً وللحق موافقاً لما جمع الله لهم الغدر واللؤم من أقطار الأرض.
ولو كان هذا الإنفاق في حقه لما ابتلاهم الله - جل ذكره - من جميع خلقه.
حدثني تمام بن أبي نعيم قال: كان لنا جار وكان له عرس.
فجعل طعامه كله فالوذقا.
فقيل له: إن المؤنة تعظم قال: أحتمل ثقل الغرم بتعجيل الراحة لعن الله النساء! ما أشك أن من أطاعهن شر منهن.
وحديث سمعناه على وجه الدهر: زعموا أن رجلاً قد بلغ في البخل غايته وصار إماماً وأنه كان إذا صار في يده الدرهم خاطبه وناجاه وفداه واستنبطه.
وكان مما يقول له: كم من أرض قد قطعت! وكم من كيس قد فارقت! وكم من خامل رفعت! ومن رفيع قد أخملت! لك عندي ألا تعرى ولا تضحي! - ثم يلقيه في كيسه ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه! - وأنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه وأن أهله ألحوا عليه في شهوة وأكثروا عليه في إنفاق درهم فدافعهم ما أمكن ذلك.
ثم حمل درهماً فقط.
فبينا هو ذاهب إذ رأى حواء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه.
فقال في نفسه: أتلف شيئاً تبذل فيه النفس بأكلة أو شربة والله ما هذا إلا موعظة لي من الله! فرجع إلى أهله ورد الدرهم إلى كيسه - فكان أهله منه في بلاء.
وكانوا يتمون موته والخلاص بالموت أو الحياة.
فلما مات وظنوا أنهم قد استراحوا منه قدم ابنه فاستولى على ماله وداره.
ثم قال: ما كان أدم أبى فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام.
قالوا: كان يأتدم بجبنة عنده.
قال: أرونيها.
فإذا فيها حز كالجدول من أثر مسح اللقمة! قال: ما هذه الحفرة قالوا: كان لا يقطع الجبن وإنما كان يمسح على ظهره فيحفر كما ترى! قال: فبهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد! لو علمت ذلك ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع قال: أضعها من بعيد فأشير إليها باللقمة! ولا يعجبني هذا الحرف الأخير لأن الإفراط لا غاية له.
وإنما نحكي ما كان في الناس وما يجوز أن يكون فيهم أو حجة أو طريقة.
فأما مثل هذا الحرف فليس مما نذكره.
وأما سائر حديث هذا الرجل فإنه من البابة.
قال ابن جهانة الثقفية: عجبت ممن يمنع النبيذ طالبه لأن النبيذ إنما يطلب ليوم فصد أو يوم حجامة أو يوم زيارة زائر أو يوم أكل سمك طري أو يوم شربة دواء.
ولم نر أحداً طلبه وعنده نبيذ ولا ليدخره ويحتكره ولا لبيعه ويعتقد منه.
وهو شيء يحسن طلبه وتحسن هبته ويحسن موقعه.
وهو في الأصل كثير رخيص فما وجه منعه ما يمنعه عندي إلا من لاحظ له في أخلاق الكرام! وعلى أني لست أوجل - بما أهب منه - على نبيذي النقصان لأني إذا احتجت عن ندمائي بقدر ما أخرجت من نبيذي رجع إلى نبيذي على حاله وكنت قد تحمدت بما لا يضرني فمن ترك التحمد بما لا يضره كان من التحمد بما يضره أبعد.
فذكر ابن جهانة ماله من الكرم بهبة نبيذه ولم يذكر ما عليه من اللؤم بحجب ندمائه.
قال الأصمعي أو غيره: حمل بعض الناس مدينيا على برذون فأقامه على الارى.
فانتبه من نومه فوجده يعتلف.
ثم نام فانتبه فوجده يعتلف.
فصاح بغلامه: يا بن أم! بعه وإلا فهبه وإلا فرده وإلا فاذبحه! أنام ولا ينام! يذهب بحر مالي! ما أراد إلا استئصالي! قال أبو الحسن المدائني: كان بالمدائن تمار وكان بخيلاً.
وكان غلامه إذا دخل الحانوت يحتال فربما احتبس.
فاتهمه بأكل التمر فسأله يوماً فأنكر.
فدعا بقطنة بيضاء ثم قال: امضغها.
فمضغها.
فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة قال: هذا دأبك كل يوم وأنا لا أعلم! أخرج من داري! وكان عندنا رجل من بني أسد إذا صعد ابن الأكار إلى نخلة له ليلقط له رطباً ملأ فاه ماء.
فسخروا به وقالوا له: إنه يشربه ويأكل شيئاً على النخلة.
فإذا أراد أن ينزل بآل في يده ثم أمسكه في فيه! والرطب أهون على أولاد الأكرة وعلى أولاد غير الأكرة من أن يحتمل فيه أحد شطر هذا المكروه ولا بعضه.
قال: فكان بعدها يملأ فاه من ماء أصفر أو أحمر أو أخضر لكي لا يقدر على مثله في رءوس النخل! وحدثني المصري وكان جار الداردريشي وماله لا يحصى.
قال: فانتهر سائلاً ذات يوم وأنا عنده.
ثم وقف عليه آخر فانتهره إلا أن ذلك بغيظ وحنق.
قال: فأقبلت عليه فقلت له: ما أبغض إليك السؤال! قال: أجل عامة من ترى منهم أيسر مني.
قال: فقلت: ما أظنك أبغضتهم لهذا.
قال: كل هؤلاء لو قدروا على داري لهدموها وعلى حياتي لنزعوها! أنا لو طاوعتهم فأعطيتهم كما سألوني كنت قد صرت مثلهم منذ زمان! فكيف تظن بغضي يكون لمن أرادني على هذا وكان أخوه شريكه في كل شيء.
وكان في البخل مثله.
فوضع أخوه في يوم جمعة بين أيدينا ونحن على بابه طبق رطب يساوي بالبصرة دانقين.
فينا نحن نأكل إذ جاء أخوه فلم يسلم ولم يتكلم حتى دخل الدار.
فأنكرنا ذلك.
وكان يفرط في إظهار البشر ويجعل البشر وقاية دون ماله.
وكان يعلم أنه إن جمع بين المنع والكبر قتل.
قال: ولم نعرف علته ولم يعرفها أخوه.
فلما كان الجمعة الأخرى دعا أيضاً أخوه بطبق رطب.
فبينا نحن نأكل إذ خرج من الدار ولم يسلم ولم يقف.
فأنكرنا ذلك ولم ندر أيضاً ما قصته.
فلما أن كان في الجمعة الثالثة ورأى مثل ذلك كتب إلى أخيه: يا أخي! كانت الشركة بيني وبينك حين لم يكثر الولد ومع الكثرة يقع الاختلاف.
ولست آمن أن يخرج ولدي وولدك إلى مكروه.
وها هنا أموال باسمي ولك شطرها وأموال باسمك ولي شطرها وصامت في منزلي وصامت في منزلك لا نعرف فضل بعض ذلك على بعض.
وإن طرقنا أمر الله ما ركدت الحرب بين هؤلاء الفتية وطال الصخب بين هؤلاء النسوة.
فالرأي أن تتقدم اليوم فيما يحسم منهم هذا السبب.
فلما قرأ أخوه كتابه تعاظمه ذلك وهاله وقلب الرأي ظهراً لبطن فلم يزده التقليب إلا جهلاً.
فجمع ولده وغلظ عليهم وقال: عسى أن يكون أحد منكم قد أخطأ بكلمة واحدة أو يكون هذا البلاء من جرائر النساء.
فلما عرف براءة ساحة القوم تمشى إليه حافياً راجلاً فقال: ما يدعوك إلى القسمة والتمييز أدع صلحاء أهل المسجد الساعة حتى أشهدهم بأني وكيل لك في هذه الضياع وحول كل شيء في منزلي إلى منزلك وجرب ذلك مني الساعة.
فإن وجدتني أروغ وأعتل فدونك - فحاجتي الآن أن تخبرني بذنبي.
قال: مالك من ذنب وما من القسمة من بد.
فأقام عنده فلما طال عليه الأمر وبلغ منه الجهد قال له: حدثني عن وضعك أطباق الرطب وبسطك الحصر في السكك وإحضارك الماء البارد وجمعك الناس على بابي في كل جمعة! كأنك ظننت أنا كنا عن هذه المكرمة عمياً! إنك إذا أطعمتهم اليم البرني أطعمتهم غداً السكر وبعد غد الهلبات.
ثم يصير ذلك أيام الجمع في سائر أيام الأسبوع.
ثم يتحول الرطب إلى الغداء ثم يؤدي الغداء إلى العشاء.
ثم تصير إلى الكساء ثم الأجداء ثم الحملان ثم اصطناع الصنائع! والله إني لأرثي لبيوت الأموال لخراج المملكة من هذا فكيف بمال تاجر جمعه من الحبات والقراريط والدوانيق والأرباع والأنصاف قال: جعلت فداك! تريد ألا آكل رطبة أبداً فضلاً على غير ذلك فلا والله لا كلمتهم أبداً! قال: إياك أن تخطئ مرتين: مرة في إطماعهم فيك ومرة في اكتساب عداوتهم.
أخرج من هذا الأمر على حساب ما دخلت فيه وتسلم تسلم.
كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة.
وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس.
ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها.
وكان يعرف بالإمساك الشديد.
فقال: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة قال: كانت عجباً من العجب! فيقول: وتدري ما جنسها وتدري ما سنها فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن.
وتدري بأي شيء كنا نسمنها.
- فلا يزال في هذا والآخر يضحك ضحكاً نعرفه نحن ولا يعرفه أبو الهذيل.
وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدراً وأوسعهم خلقاً وأسهلهمسهولة.
فإن ذكروا دجاجة قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة فإن ذكروا بطة أو عناقاً أو جزوراً أو بقرة قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم قال: لا والله ولا تلك الدجاجة! وإن ذكروا عذوبة الشحم قال: عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج.
وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم.
وكانت مثلاً في كل شيء وتاريخاً في كل شيء! وأقبل مرة على محمد بن الجهم وأنا وأصحابنا عنده فقال: إني رجل منخرق الكفين لا أليق شيئاً.
ويدي هذه صناع في الكسب ولكنها في الإنفاق خرقاء! كم تظن من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس أبو عثمان يعلم ذلك! أسألك بالله يا أبا عثمان هل تعلم ذلك فقلت: يا أبا الهذيل ما نشك فيما تقول - فلم يرض باحتضاري هذا الكلام حتى وكان أبو سعيد المدائني إماماً في البخل عندنا بالبصرة.
وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم.
وكان شديد العقل شديد العارضة حاضر الحجة بعيد الروية.
وكنت أتعجب من تفسير أصحابنا لقول العرب في لؤم اللئيم الراضع: قال أصحابنا: كل لئيم بخيل وليس كل بخيل لئيماً لأن اسم اللئيم يقع على البخل وعلى قلة الشكر وعلى مهانة النفس وعلى أن له في ذلك عرفاً متقدماً.
قال أبو زيد: هو لئيم وملائم.
فاللئيم ما فسرت والملام الذي يقوم بعذر اللئيم.
فأما اللئيم الراضع فالذي لا يحلب في الإناء ويرضع الخلف مخافة أن يضيع من اللبن شيء.
قال ثوب بن شحمة العنبري في امرأته الهمدانية: وحديث لا مجة التي حدثتني تدع الإناء تشرباً للقادم القادمان: الخلفان المقدمان.
فلما بلغه ذلك عنها طلقها.
فلما طلقها قيل له: إن البخل إنما يعيب الرجال ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل قال: ليس ذلك بي.
أخاف أن تلد لي مثلها.
قال رافع بن هريم: .
.
.
.
.
.
.
.
.
تحلب قاعداً وتلمج أحياناً وقبعك حاضر يدعوا الله أن يجعله صاحب شاء ولا يجعله صاحب إبل وأن يرتضع من الخلف وإن كان معه إناء.
والعربي يماري على صاحبه فيقول: إن كنت كاذباً فاحتلبت قاعداً: أي أبدلك الله بكرم الإبل لؤم الغنم.
فكيف يتعجب من لؤم الراضع وصنع أبو سعيد المدائني أعظم من ذلك اصطبغ من دون خل وهو قائم حتى فني ولم يخرج منه قليلاً ولا كثيراً.
وكانت له حلقة يقعد فيها أصحاب الغنية والبخلاء الذين يتذاكرون الإصلاح.
فبلغهم أن أبا سعيد يأتي الحربية في كل يوم ليقتضي رجلاً هناك خمسة دراهم فضلت عليه وقالوا: هذا خطأ عظيم وتضييع كثير.
وإنما الحزم أن يتشدد في غير تضييع.
وصاحبنا هذا قد رجع على نفسه بضروب من البلاء.
فاجتمعوا عليه على طريق التفرغ له والاستفادة منه.
قالوا: نراك تصنع شيئاً لا نعرفه والخطأ منك أعظم منه من غيرك.
قد أشكل علينا هذا الأمر فأخبرنا عنه فقد ضاقت صدورنا به: خبرنا عن مضيك إلى الحربية لتقتضي خمسة دراهم فواحدة: أنا لا نأمن عليك انتقاض بدنك وقد خلا ما خلا من سنك وأن تعتل فتدع التقاضي الكثير بسبب القليل.
وثانية: أنك إن تنصب هذا النصب فلا بد لك من أن تزداد في العشاء إن كنت ممن يتعشى أو تتعشى إن وبعد فإنك تحتاج أن تشق وسط السوق وعليك ثيابك والحمولة تستقبلك.
فمن هاهنا نترة ومن هاهنا جذبة فإذا الثوب قد أودى.
ومن ذلك أن نعلك تنقب وترق وساق سراويلك تتسخ وتبلى ولعلك أن تعثر في نعلك فتقدها قداً ولعلك أن تهرتها هرتاً.
وبعد فاقتضاء القليل أدلى بك إلى هذا لو بلغت منه شيئاً.
وإنك أفضل إلا أنا نحب أنك تجاى عن الأمر بشيء فليس كلنا يثق لك بالصواب في كل شيء.
قال أبو سعيد: أما ما ذكرتم من انتفاض البدن فإن الذي أخاف على بدني من الدعة ومن قلة الحركة أكثر.
وما رأيت أصح أبداناً من الحمالين والطوافين.
والقوم قبلى إن يموتوا لم يكن لهم تلك عادة.
أو ليس يقول الناس: والله لفلان أصح من الجلاوزة - يعني اختلاف الجلاوزة في العدو -.
ولربما أقمت في المنزل لبعض الأمر فأكثر الصعود والنزول خوفاً من قلة الحركة.
وأما التشاغل بالبعيد عن القريب فإني لا أعرض للبعيد حتى أفرغ من القريب.
وأما ما ذكرتم من الزيادة في الطعام فقد أيقنت نفسي واطمأن قلبي على أنه ليس لنفسي عندي إلا ما لها وأنها إن حاسبتني أيام النصب حاسبتها أيام الراحة فستعلم حينئذ أين أيام الحربية من أيام ثقيف وأما ما ذكرتم من تلقى الحمولة ومن مزاحمة أهل السوق ومن النتر والجذب فأنا أقطع عرض وأما ما ذكرتم من شأن النعل والسراويل فإني من لدن خروجي من منزلي إلى أن أقرب من باب صاحبي فإنما نعلي في يدي وسروايلي في كمي! فإذا صرت إليه لبستهما! فإذا فصلت من عنده خلعتهما! فهما في ذلك اليوم أودع أبداناً وأحسن حالاً! بقي الآن لكم مما ذكرتم شيء قالوا: لا.
قال: فها هنا واحدة تفي بجميع ما ذكرتم.
قالوا: وما هي إذا علم القريب الدار ومن لي عليه ألوف الدنانير شدة مطالبتي للبعيد الدار ومن ليس لي عليه إلا الفلوس أتي بحقي ولم يطمع نفسه في مالي.
وهذا تدبير يجمع لي إلى رجوع مالي طول راحة بدني.
ثم أنا بالخيار في ترك الراحة لأني أقسمها على الأشغال حينئذ كيف شئت.
وأخرى أن هذا القليل لو لم يكن فضلة من كثير وموصلاً بدين لي مشهور لجاز أن أتجافى عنه.
فأما أن أدع شيئاً يطمع في فضول ما يبقي على الغرماء فهذا ما لا يجوز.
فقاموا وقالوا بأجمعهم: لا والله لا سألناك عن مشكلة! حدثني أحمد المكي أخو محمد المكي - وكان متصلاً بأبي سعيد - نسيت القنية ونسيت صنعة المال لأعاجيب أبي سعيد وحديثه قال أحمد: قلت له مرة: والله إنك لكثير المال وإنك لتعرف ما نجهل وإن قميصك وسخ فلم لا تأمر بغسله قال: فلو كنت قليل المال وأجهل ما تعرف كيف كان قولك لي إني قد فكرت في هذا منذ ستة أشهر فما وضح لي بعد الأمر فيه.
أقول مرة: الثوب إذا اتسخ أكل البدن كما يأكل الصدأ الحديد والثوب إذا ترادفه العرق وجف وتراكم عليه الوسخ ولبد أكل السلك وأحرق الغزل.
هذا مع نتن ريحه وقبح منظره.
وبعد فإني رجل آتي أبواب الغرماء وغلمان غرمائي جبابرة.
فما ظنك بهم إذا رأوني في أطمار وسخة وأسمال درنة وحال حداد جبهوا مرة وحجبوا مرة فيرجع ذلك علينا بمضرة.
من إصلاح المال أن ينفي عنه كل ما أعان على حبسه مع ما يدخل من الغيظ ويلقي من كان كذلك من المكروه.
فإذا اجتمعت هذه الخواطر هممت نغسلها فإذا همت به عارضني معارض يوهمني أنه أتاني من جهة الحزم ومن قبل العقل فقال: أول ذلك الغرم الذي يكون في الماء والصابون.
والجارية إذا ازدادت عناء ازدادت أكلاً.
والصابون نورة والنورة تأكل الثوب.
وإن انحزق لا يزال الثوب على خطر حتى يسلم إلى العصر والدق.
ثم إذا ألقي على الرسن فهو بعرض الجذبة والنترة والعلق.
ولابد من الجلوس يومئذ في البيت.
ومتى جلست في البيت فتحوا علينا أبواباً من النفقة وأبواباً من الشهوات.
والثياب لابد لها من دق.
فإن نحن دققناها في المنزل قطعناها.
وإن نحن أسلمناها إلى القصار فغرم على غرم.
وعلى أنه ربما أنزل بها من المكروه ما هو أشد.
وما جلست في المنزل قط إلا أرجف بي الغرماء وادعوا على الأمراض والأحداث.
وفي ذلك لهم فساد والتواء وطمع لم يكن عندهم.
فإذا أنا لبستها وقد ابيضت وحسنت وخفت وطابت تبينت عند ذلك وسخ جسدي وكثرة شعري وقد كان بعض ذلك موصولاً ببعض فعرفته فاستبان لي ما لم يكن يستبين واكترثت لما لم أكن اكترثت له فيصير ذلك مدعاة إلى دخول الحمام.
فإن دخلته فغرم ثقيل مع المخاطرة بالثياب.
ولي امرأة جميلة شابة.
فإذا رأتني قد أطليت وغسلت رأسي وبيضت ثوبي عارضتني بالتطيب وتلبس أحسن ثيابها! مع أمور كثيرة نسي بعضها أحمد وبعضها أنا.
وكان أبو سعيد هذا مع بخله أشد الناس نفساً وأحماهم أنفاً.
بلغ من أمره في ذلك ومن بلوغه فيه أنه أتى رجلاً من ثقيف يقتضيه ألف دينار وقد حل عليه المال.
فكان ربما أطال عنده الجلوس.
ويحضر عنده الغداء فيتغدى معه.
وهو في ذلك يقتضيه.
فلما طال عليه المطل قال له يوماً وهو على خوانه: إن لهذا المال زكاة مؤداة وقد علمنا أنا حين أخرجنا هذا المال من أيدينا أنه معرض للذهاب وللمنازعة الطويلة ولأن يقع في الميراث.
ثم رضينا منك بالريح اليسير بالذي ظنناه بك من حسن القضاء.
ولولا ذلك لم نرض بهذا المال.
وهذا المال إذا كان شرطه أن يرجع بعد سنة فرفهت عنك بحسن المطالبة شهراً أو شهرين ثم مكث عندي إلى أن أصبت له مثلك شهراً أو شهرين سحق فضله وخرج علينا فضل.
ومثلك يكتفي بالقليل.
وقد طال اقتضائي وطال تغافلك.
يقول هذا الكلام وهو في ذلك لا يقطع الأكل - فأقبل عليه رجل من ثقيف فعرض له بأنه لو أراد التقاضي محضاً لكان ذلك في المسجد ولم يكن في الموضع الذي يحضر فيه الغداء.
فقطع الأكل ثم نزا في وجهه الدم ونظر إليه نظر الجمل الصول ثم كاد يطير! ثم أقبل عليه فقال: لا أم لك! أنا إنما اصطبغت من دن خل حتى فني من حسن العقل.
وأحببت الغنى بفضل بغضي للفقر وأبغضت الفقر بفضل أنفتي من احتمال الذل.
تعرض لي - لا أم لك! - بأني أرغب في غدائه.
والله ما أكلت معه إلا ليستحي من حرمة المؤاكلة وليصير كرمه سبباً لتعجيل الحاجة.
ثم نهض بالصك وعليه طينته فاعترض بها الحائط حتى كسرها.
ثم تفل في الكتاب وحك بعضه ببعض.
ثم مزقه ورمى به.
ثم قال لكل من شهد المجلس: هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان اشهدوا جميعاً أني قد قبضت منه وأنه برئ من كل شيء أطالبه.
ثم نهض.
فلما صنع ما صنع أقبل الغريم على صاحبه فقال: ما دعاك إلى هذا الكلام ثم تقول لهذا الرجل على مائدتي! وتقدم بهذا الكلام على من لا تعرف كيف موقع الأمور منه وبعد فقد والله أردت مطله إلى أن أبيع الثمر ورجونا حلاوته.
فقد أحسنت إليه وأسأت إلينا وعجلت عليه ماله.
اذهب يا غلام فاضرب بذلك الثمر السوق فيعه بما بلغ! فأخذ ماله كملاً.
ثم ركب إليه فأبى أن يأخذه.
فلما كثر الأمر في ذلك قال: أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قال أنه عربي وأنا مولى.
فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال وإن لم تفعل فإني لا آخذه.
فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة حتى طلبوا إليه حتى أخذ المال.
وكان أبو سعيد ينهى خادمه أن تخرج الكساحة من الدار وأمرها أن تجمعها من دور السكان وتلقيها على كساحتهم.
فإذا كان في الحين جلس وجاءت الخادم ومعها زبيل فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً ثم فتشت واحداً واحداً.
فإن أصاب قطع دراهم وصرة فيها نفقة والدينار أو قطعة حلي - فسبيل ذلك معروف.
وأما ما وجد فيه من الصوف فكان وجهه أن يباع - إذا اجتمع - من أصحاب البراذع.
وكذلك قطع الأكسية.
وما كان من خرق الثياب فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات.
وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين.
وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج.
وما كان من نوى التمر فمن أصحاب الحشوف.
وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس.
وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين.
وما كان من القراطيس فللطراز.
وما كان من الصحف فلرءوس الجرار.
وما كان من قطع الخشب فللا كافين.
وما كان من قطع العظام فللوقود.
وما كان من قطع الخرق فللتنانير الجدد.
وما كان من إشكنج فهو مجموع للبناء ثم يحرك ويثار ويخلل حتى يجتمع قماشه.
ثم يعزل للتنور.
وما كان من قطع القار بيع من القيار.
وإذا بقي التراب خالصاً وأراد أن يضرب منه اللبن للبيع وللحاجة إليه لم يتكلف الماء ولكن يأمر جميع من في الدار ألا يتوضئوا ولا يغتسلوا إلا عليه.
فإذا ابتل ضربه لبناً! وكان يقول: من لم يتعرف الاقتصاد تعرفي فلا يتعرض له.
وذهب من ساكن له شيء كبعض ما يسرق من البيوت.
فقال لهم: اطرحوا الليلة تراباً فعسى أن يندم من أخذه فيلقيه في التراب.
ولا ينكر مجيئه إلى ذلك المكان لكثرة من يجيء لذلك.
فاتفق أن طرح ذلك الشيء المسروق في التراب - وكانوا يطرحونه على كناسته - فرآه قبل أن يراه المسروق منه.
فأخذ منه كراء الكساحة! فهذا حديث أبي سعيد! تمشى قوم إلى الأصمعي مع تاجر كان اشترى ثمرته بخسران كان ناله وسأله حسن النظر والحطيطة.
فقال الأصمعي: أسمعتم بالقسمة الضيزى هي والله ما تريدون شيخكم عليه! اشترى مني على أن يكون الخسران علي والربح له! هذا وأبيكم تجارة أبي العنبس! اذهبوا فاشتروا على طعام العراق على هذا الشرط! على أني والله ما أدري أصادق هو أم كاذب.
وها هنا واحدة وهي لكم دوني ولابد من أن أحتمل لكم إذ لم تحتملوا لي.
والله ما مشيتم معه إلا وأنتم توجبون حقه وتوجبون رفده.
لو كنت أوجب له مثل ما توجبون لقد كنت أغنيته عنكم.
وأنا لا أعرفه ولا يصريني بحق.
فهلموا نتوزع هذه الفضلة بيننا بالسوية.
هذا أحسن ممن احتمل حقاً لا يجب عليه في رضا من يجب ذلك عليه.
فقاموا ولم يعودوا.
فخرج إليه التاجر من حقه وأيس مما قبله.
حدثني جعفر ابن أخت واصل قال: قلت لأبي عيينة: قد أحسن الذي سأل امرأته عن اللحم فقالت: أكله السنور.
فوزن السنور ثم قال: هذا اللحم فأين السنور قال: كأنك تعرض بي! قال: قلت: إنك والله أهل ذلك: شيخ قد قارب المائة وعليه فاضلة وعياله قليل ويعطي الأموال على مذاكرة العلم والعلم لذته وصناعته.
ثم يرقي إلى جوف منزله! وأنت رجل لك في البستان ورجل في أصحاب الفسيل ورجل في السوق ورجل في الكلاء: تطلب من هذا وقر جص ومن هذا وقر آجر ومن هذا قطعة ساج.
ومن هذا هكذا! ما هذا الحرص وما هذا الكد وما هذا الشغل لو كنت شاباً بعيد الأمل كيف كنت تكون ولو كنت مديناً كثير العيال كيف كنت تكون وقد رأيتك فيما حدث تلبس الأطمار وتمشي حافياً نصف النهار - قال: ثم أجمجم.
بلغني أنك فقدت قطعة بطيخ فألححت في المسألة عنها فقيل لك: أكلها السنور.
فرميت بباقي القطعة قدام السنور لتمتحن صدقهم من كذبهم! فلما لم يأكله غرمتهم ثمن البطيخة كما هي! قالوا لك: كان الليل.
فإن لم تكن التي أكلته من سنانير الجيران وكان الذي أكله سنورنا هذا فإنك رميت إليه بالقطعة وهو شبعان منه.
فأنظرنا ولا تغرمنا نمتحنه في حال غير هذه.
فأبيت إلا إغرامهم! قال: ويلك! إني والله ما أصل إلى منعهم من الفساد إلا ببعض.
وقد قال زياد في خطبته: إني والله ما أصل منكم إلى أخذ الحق حتى أخوض الباطل إليكم خوضاً.
وأما ما لمتني عليه اتفاقاً فإنما ذهبت إلى قوله: لو أن في يدي فسيلة ثم قيل لي: إن القيامة تقوم الساع لبادرتها فغرستها.
وقد قال أبو الدرداء في وجعه الذي مات فيه: زوجوني فإني أكره أن ألقي الله قال مكرز: العجز فراش وطئ لا يستوطئه إلا الفشل الدثور.
وقال عبد الله بن وهب: حب الهويني يكسب النصب.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم والراحة فإنها غفلة.
وقال: لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما أركب.
وقال: تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب واركبوا الخيل نزوا.
وقال لعمرو بن معد يكرب حين شكا إليه الحقاء: كذبت عليك الظهائر.
وقال: احتفوا فإنكم لا تدرون متى تكو الحفلة.
وقال: إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة.
وقال لسعيد بن حاتم: احذر النعمة كحذرك من المعصية ولهي أخوفهما عليك عندي.
وقال: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من الشغل.
وقال أكثم بن صيفي: ما أحب أني مكفي كل أمر الدنيا.
قالوا: وإن أسمنت وألبنت قال: نعم أكره عادة العجز.
أفتراني أدع وصايا الأنبياء وقول الخلفاء وتأديب العرب وآخذ بقولك وتغدى محمد بن الأشعث عند يحيى بن خالد.
فتذاكروا الزيت وفضل ما بينه وبين السمن وفضل ما بين الأنفاق وزيت الماء.
فقال محمد: عندي زيت لم ير الناس مثله.
قال يحيى: لا تؤتي منه بشيء فدعا يحيى غلامه.
فقال: إذا دخلت الخزانة فانظر الجرة الرابعة عن يمينك إذا دخلت فجئنا منه بشيء.
قال يحيى: ما يعجبني السيد يعرف موضع زيته وزيتونه.
وقرب خباز أسد بن عبد الله إليه وهو على خراسان شواء قد أنضجه نضجاً وكان يعجبه ما رطب من الشواء.
فقال لخبازه: أتظن أن صنيعك يخفى علي إنك لست تبالغ في إنضاجه لتطييبه ولكن تستحلب جميع دسمه فتنتفع بذلك منه! فبلغت أخاه فقال: رب جهل خير من علم! وكان رجل يغشى طعام الجوهري وكان يتحرى وقته ولا يخطئ.
فإذا دخل والقوم يأكلون وحين وضع الخوان قال: لعن الله القدرية! من كان يستطيع أن يصرفني عن أكل الطعام وقد كان في اللوح المحفوظ أني سآكله فلما أكثر من ذلك قال له رياح: تعال بالعشي أو بالغداة.
فإن وجدت شيئاً فالعن القدرية والعن آباءهم وأمهاتهم! وجاء غلام إلى خالد بن صفوان بطبق خوخ - إما أن يكون هدية وإما أن غلامه جاء به من البستان - فلما وضعه بين يديه قال: لولا أني أعلم أنك قد أكلت منه لأطعمتك واحدة! وقال رمضان: كنت مع شيخ أهوازي في جعفرية.
وكنت في الذنب وكان في الصدر.
فلما جاء وقت الغداء أخرج من سلة له دجاجة وفرخاً واحداً مبرداً.
وأقبل يأكل ويتحدث ولا يعرض علي.
وليس في السفينة غيري وغيره! فرآني أنظر إليه مرة وإلى ما بين يديه مرة.
فتوهم أني أشتهيه واستبطئه.
فقال لي: لم تحدق النظر من كان عنده أكل مثلي ومن لك يكن عنده نظر مثلك!.
قال: ثم نظر إلي وأنا أنظر إليه فقال: يا هناه أنا رجل حسن الأكل لا آكل إلا طيب الطعام.
وأنا أخاف أن تكون عينك مالحة وعين مثلك سريعة.
فاصرف عني وجهك.
قال: فوثبت عليه فقبضت على لحيته بيدي اليسرى ثم تناولت الدجاجة بيدي اليمنى.
فما زلت أضرب بها رأسه حتى تقطعت في يدي! ثم تحول إلى مكاني فمسح وجهه ولحيته.
ثم أقبل علي فقال: قد أخرتك أن عينك مالحة وأنك ستصيبني بعين! قلت: وما شبه هذا من العين قال إنما العين مكروه يحدث.
فقد أنزلت بنا عينك أعظم المكروه! فضحكت ضحكاً ما ضحكت مثله.
وتكالمنا حتى كأنه لم يقل قبيحاً وحتى كأني لم أفرط عليه.
هذه ملتقطات أحاديث أصحابنا وأحاديثنا وما رأينا بعيوننا.
فأما أحاديث الأصمعي وأبي عبيدة وأبي الحسن فإني لم أجد منها ما يصلح لهذا الموضع إلا ما قد كتبته في هذا الكتاب وهي بضعة عشر حديثاً.
قالوا: كان للمغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته بعد الطعام.
ولم يكن أحد يمسه إذ كان هو لا يمسه! فأقدم عليه أعرابي يوماً ولم يعرف سيرة أصحابنا فيه فلم يرض بأكل لحمه حتى تعرق عظمه.
فقال له المغيرة: يا هذا! تطالب عظام هذا الجدي بذحل هل نطحتك أمه وكان الأصمعي يقول: إنما قال: يا هذا! تطالب عظام هذا البائس بذحل هل نطحتك أمه.
قال: وكان على شرطته عبد الرحمن بن طارق فقال لرجل من الشرط: إن أقدمت على جدي الأمير أسقطت عنك نوبة سنة.
فبلغه ذلك فشكاه إلى الحجاج فعزله وولي مكانه زياد بن جديد.
فكان أثقل عليه من عبد الرحمن.
ولم يقدر على عزله إذ كان من قبل الحجاج.
فكان المغيرة إذا خطب قال: يا أهل الكوفة! من بغاكم الغوائل وسعى بكم إلى أميركم فلعنه الله ولعن أمه العوراء! وكانت أم زياد عوراء.
فكان الناس يقولون: ما رأينا تعريضاَ قط أطيب من تعريضه!.
قالوا: وكان لزياد الحارثي جدي لا يمسه ولا يمسه أحد! فعشي في شهر رمضان قوماً فيهم أشعب.
فعرض أشعب للجدي من بينهم.
فقال زياد: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم قالوا: لا.
قال: فليصل بهم أشعب.
فقال أشعب: أو غير هذا - أصلح الله الأمير - قال: وما هو قال: أحلف بالمحرجات ألا آكل لحم جدي أبداً! قالوا: دعا عبد الملك بن قيس الذئبي رجلاً من أشراف أهل البصرة.
وكان عبد الملك بخيلاً على الطعام جواداً بالدراهم.
فاستصحب الرجل ساكناً.
فلما رآه عبد الملك ضاق به ذرعاً.
فأقبل عليه فقال له: ألف درهم خير لك من احتباسك علينا! واحتمل غرم ألف درهم ولم يحتمل أكل رغيف! وتناول أعرابي من بين يدي سليمان بن عبد الملك دجاجة فقال له: يكفيك ما بين يديك وما يليك.
قال الأعرابي: ومنها شيء حمى قال: فخذها لا بورك لك فيها! قال: وكان معاوية تعجبه القبة.
وتغدى معه ذات يوم صعصعة بن صوحان فتناولها صعصعة من بين يدي معاوية.
قال معاوية: إنك لبعيد النجعة! قال صعصعة: من أدب انتجع! وقال: دخل هشام بن عبد الملك حائطاً له فيه فاكهة وأشجار وثمار ومعه أصحابه.
فجعلوا يأكلون ويدعون بالبركة! فقال هشام: يا غلام! اقلع هذا واغرس مكانه الزيتون! قال: وكان المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي يأكل تمراً هو وأصحابه.
فانطفأ السراج.
وكانوا يلقون النوى في طست.
فسمع صوت نواتين فقال: من هذا الذي يلعب بكعبين وقالوا: باع حويطب بن عبد العزى داراً من معاوية بخمسة وأربعين ألف دينار.
فقيل له: أصبحت كثير المال.
قال: وما منفعة خمسة وأربعين ألفاً مع ستة من العيال وقالوا: سأل خالد بن صفوان رجل فأعطاه درهماً فاستقله السائل فقال: يا أحمق! إن الدرهم عشر العشرة وإن العشرة عشر المائة وإن المائة عشر الألف وإن الألف عشر العشرة الآلاف.
أما ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دية مسلم! قالوا: كان بلال بن أبي بردة قد خاف الجذام وهو والي البصرة.
فوصفوا له الاستنقاع في السمن.
وكان يفطر الناس في شهر رمضان.
فكانوا يجلسون حلقاً وتوضع لهم الموائد.
فإذا أقام المؤذن نهض بلال إلى الصلاة ويستحي الآخرون.
فإذا قاموا إلى الصلاة جاء الخبازون فرفعوا الطعام! قال: واحتقن عمر بن يزيد الأسدي بحقنة فيها أدهان.
فلما أدهان.
فلما حركته بطنه كره أن يأتي الحلاء فتذهب تلك الأدهان.
فكان يجلس في الطست ويقول: صفوا هذا فإنه يصلح للسراج! قال: وخبرنا جار له قال: رأيته يتخلل من الطعام بخلال واحد شهراً كلما تغدى حذف من وقالوا: كان ذراع الذراع مع خالد بن صفوان.
فوضعوا بين يديه دجاجة وبين يديه شيء من زيتون.
فجعل يلحظ الدجاجة.
فقال: كأنك تهم بها! قال: ومن يمنعني قال: إذا أصير أنا وأنت في مالي سواء! قال: ومد يده أبو الأشهب إلى شيء بين يدي نميلة بن مرة السعدي فقال: إذا أفردت بشيء فلا تعترض لغيره.
قالوا: ومات وعليه للدقاق وحده ثمانون ألف درهم لكثرة طعامه! وقالوا: كان الحكم بن أيوب الثقفي عاملاً للحجاج على البصرة.
واستعمل على العرق جرير بن بيهس المازني ولقب جرير العطرق.
فخرج الحكم يتنزه وهو باليمامة.
فدعا العطرق إلى غدائه.
فكل معه فتناول دراجة كانت بين يديه.
فعزله وولي مكانه نويرة المازني.
فقال نويرة وهو ابن عم العطرق: قد كان في العرق صيد لو قنعت به فيه غنى لك عن دراجة الحكم وفي عوارض لا تنفك تأكلها لو كان يشفيك لحم الجزر من قرم! وفي وطاب مملاة مثممة فيها الصريح الذي يشفي من القرم ولما ولي مكانه نويرة بلغه أنه ابن عم له فعزله.
فقال نويرة: ولا ساق سراق العراقة صالح بني ولا كلفت ذنب العطرق وتناول رجل من قدام أمير كان لنا ضخم بيضة فقال: خذها فإنها بيضة العقر.
فلم يزل محجوباً حتى مات.
وأتي ضيعة له يتنزه إليها ومعه خمسة رجال من خاصته وقد حملوا معه طعام خمسمائة وثقل عليه أن يأكلوا معه واشتد جوعه فجلس على مشارة بقل.
فأقبل ينتزع الفجلة فيطوي جزرتها بعرقها ثم يأكلها من غير أن تغسل من كلب الجوع ويقول لواحد منهم كان أقرب الخمسة إليه مجلساً: لو ذهب هؤلاء الثقلاء لقد أكلنا! قالوا: وأكل عبد الرحمن بن أبي بكرة على خوان معاوية فرأى لقم عبد الرحمن.
فلما كان بالعشي وراح إليه أبو بكرة قال: ما فعل ابنك التلقامة قال: اعتل.
قال: مثله لا يعدم العلة! وأكل أعرابي مع أبي الأسود الدؤلي فرأى له لقماً منكراً وهاله ما يصنع.
قال له: ما اسمك قال لقمان.
قال: صدق أهلك أنت لقمان! قالوا: وكان له دكان لا يسع إلا مقعده وطبيقاً يوضع بين يديه وجعله مرتفعاً ولم يجعل له عتباً كي لا يرتقي إليه أحد.
قالوا: فكان أعرابي يتحين وقته ويأتيه على فرس فيصير كأنه معه على الدكان.
فأخذ دبة وجعل فيها حصى واتكأ عليها.
فإذا رأى الأعرابي قد أقبل أراه كأنه يحول متكأه.
فإذا قعقعت الدبة بالحصى نفر الفرس.
قالوا: فلم يزل الأعرابي يدينه ويقعقع هو به حتى نفر منه فصرعه.
فكان لا يعود بعد ذلك إليه. رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي إلى الثقفي
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن جلوسك إلى الأصمعي وعجبك بسهل بن هارون واسترجاحك إسماعيل بن غزوان وطعمك على مويس بن عمران وخلطتك بابن مشارك واختلافك إلى ابن التوأم وإكثارك من ذكر المال وإصلاحه والقيام عليه واصطناعه وإطنابك في وصف النرويج والتثمير وحسن التعهد والتوفير - دليل على خبئ سوء وشاهد على عيب وإدبار بعد أن كنت تستثقل ذكرهم وتستشنع فعلهم وتتعجب من مذهبهم وتسرف في ذمهم.
وليس يلهج بذكر الجمع إلا من قد عزم على الجمع ولا يأنس بالبخلاء إلا المستوحش من وفي تحفظك قول سهل بن هارون: " في الاستعداد في حال المهلة وفي الأخذ بالثقة وأن أقبح التفريط ما جاء مع طول المدة وأن الحزم كل الحزم والصواب كل الصواب أن يستظهر على الحدثان وأن يجعل ما فضل عن قوام الأبدان ردءاً دون صروف الزمان وأنا لا نسب إلى الحكمة حتى نحوط أصل النعمة بأن نجعل دون فضولها جنة " - شاهد على عجبك بمذهبه وبرهان على ميلك إلى سبيله.
وفي استحسانك رواية الأصمعي في " أن أكثر أهل النار النساء والفقراء وأن أكثر أهل الجنة البله والأغنياء وأن أرباب الدثور هم الذين ذهبوا بالأجور " - برهان على صحة حكمنا عليك ودليل على صواب رأينا فيك.
وفي تفضيلك كلام ابن غزوان حين قال: " تنعمتم بالطعام الطيب وبالثياب الفاخرة وبالشراب الرقيق وبالغناء المطرب وتنعمنا بعز الثروة وبصواب النظر في العاقبة وبكثرة المال والأمن من سوء الحال ومن ذل الرغبة إلى الرجال والعجز عن مصلحة العيال - فتلك لذتكم وهذه لذتنا.
وهذا رأينا في التسلم من الذم وذاك رأيهم في التعرض للحمد.
وإنما ينتفع بالحمد السليم الفارغ البال ويسر باللذات الصحيح الصادق الحس.
فأما الفقير فما والطعام الذي آثرتموه يعود رجيعاً والشراب يصير بولاً والبناء يعود نقضاً.
والغناء ريح هابة ومسقط للمروءة وسخافة تفسد ورنة تسير.
فلذتكم فيما حوى لكم الفقر ونقض المروءة ولذتنا فيما حوى لنا الغنى وبنى المروءة.
فنحن في بناء وأنتم في هدم ونحن في إبرام وأنتم في نقض ونحن في التماس العز الدائم مع فوت بعض اللذة وأنتم في التعرض للذل الدائم مع فوت كل مروءة ".
وقد فهمنا معنى حكايتك وما لهجت به من روايتك.
والدليل على انتقاض طباعك وإدباز أمرك استحسانك ضد ما كنت تستحسن وعشقك لما لم تزل تمقت.
فبعداً وسحقاً! ولا يبعد الله إلا من ظلم! والشاعر أبصر بكم حيث يقول: فإن سمعت بهلك للبخيل فقل: بعداً وسحقاً له من هالك مودى! تراثه جنة للوارثين إذا أودى وجثمانه للتراب والدود وقال آخر: تبلى محاسن وجهه في قبره والمال بين عدوه مقسوم والحمد لله الذي لم يمتني حتى أرانيك وكيلاً في مالك وأجيراً لوارثك.
وهل تزيد حال من أنفق جميع ماله ورأى المكروه في عياله وظهر فقره وشمت به عدوه على أكثر من انصراف المؤنسين عنه وعلى بغض عياله وعلى خشونة الملبس وخشونة المأكل وهذا كله مجتمع في مسك البخيل ومصبوب على هامة الشحيح ومعجل للئيم وملازم للمنوع ألا إن المنفق قد ربح المحمدة وتمتع بالنعمة ولم يعطل المقدرة ووفى كل خصلة من هذه حقها ووفر عليها نصيبها والممسك معذب بحصر نفسه وبالكد لغيره مع لزوم الحجة وسقوط الهمة والتعرض للذم والإهانة ومع تحكيم المرة السوداء في نفسه وتسلطيها على عرضه وتمكينها من عيشه وسرور قلبه.
ولقد سرى إليك عرق ولقد دخل أعراقك جور ولقد عمل فيها قادح ولقد غالها غول وما هذا المذهب من أخلاق صميم ثقيف ولا من شيم أعرقت فيها قريش.
ولقد عرض إقراف ولقد أفسدتك هجنة.
ولقد قال معاوية: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً فهو دخيل ومن لم يكن من آل الزبير شجاعاً فهو لزيق ومن لم يكن من بني المغيرة تياهاً فهو سنيد.
وقال سلم بن قتيبة: إذا رأيت الثقفي يعز من غير طعام ويكسب لغير إنفاق فبهرجه ثم بهرجه.
وقال بلال بن أبي بردة: لولا شباب ثقيف وسفهاؤهم ما كان لأهل البصرة مال.
إن الله جواد لا يبخل وصدوق لا يكذب ووفي لا يغدر وحليم لا يعجل وعدل لا يظلم.
وقد أمرنا بالجود ونهانا عن البخل وأمرنا بالصدق ونهانا عن الكذب وأمرنا بالحلم ونهانا عن العجلة وأمرنا بالعدل ونهانا عن الظلم وأمرنا بالوفاء ونهانا عن الغدر.
فلم يأمرنا إلا بما اختار لنفسه ولم يزجرنا إلا عما لم يرضه لنفسه.
وقد قالوا بأجمعهم: إن الله أجود الأجودين وأمجد الأمجدين كما قالوا: أرحم الرحمين وأحسن الخالقين.
وقالوا في التأديب لسائليهم والتعليم لأجوادهم: لا تجاودوا الله فإن الله - جل ذكره - أجود وأمجد.
وذكر نفسه - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فقال: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} و {ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
وقال: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يضع درهماً على درهم ولا لبنة على لبنة.
وملك جزيرة العرب فقبض الصدقات وجبيت له الأموال ما بين غدران العراق إلى شحر عمان إلى أقصى مخاليف اليمن.
ثم توفي وعليه دين ودرعه مرهونة.
ولم يسأل حاجة قط فقال: لا.
وكان إذا سئل أعطى وإذا وعد أو أطمع كان وعده كالعيان وإطماعه كالإنجاز.
ومدحته الشعراء بالجود وذكرته الخطباء بالسماح.
ولقد كان يهب للرجل الواحد الضاجعة من الشاء والعرج من الإبل - وكان أكثر ما يهب الملك من العرب مائة بعير فيقال: وهب هنيدة.
وإنما يقال ذلك إذا أريد بالقول غاية المدح - ولقد وهب لرجل ألف بعير.
فلما رآها تزدحم وفخرت هاشم على سائر قريش فقالوا: نحن أطعم الطعام وأضرب للهام.
وذكرها بعض العلماء فقالوا: أجواد أمجاد ذوو السنة حداد.
وأجمعت الأمم كلها بخيلها وسخيها وممزوجها على ذم البخل وحمد الجود كما أجمعوا على ذم الكذب وحمد الصدق.
وقالوا: أفضل الجود الجود بالمجهود.
وحتى قالوا في جهد المقل وفيمن أخرج الجهد وأعطى الكل.
وحتى جعلوا لمن جاد بنفسه فضيلة على من جاد بماله فقال الفرزدق: على ساعة لو كان في القوم حاتم على جوده ضنت به نفس حاتم ولم يكن الفرزدق ليضرب المثل في هذا الموضع بكعب بن مامة وقد جاد بحوبائه عند المصافنة.
فما رأينا عربياً سفه حلم حاتم لجوده بجميع ماله ولا رأينا أحداً منهم سفه حلم كعب على جوده بنفسه بل جعلوا ذلك من كعب لإياد مفخراً.
وجعلوا ذلك من حاتم طيئ مأثرة لقحطان على عدنان ثم للعرب على العجم ثم لسكان جزيرة العرب ولأهل تلك البرية على سائر الجزائر والترب.
فمن أراد أن يخالف ما وصف اله - جل ذكره - به نفسه وما منح من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وما فطر على تفضيله العرب قاطبة والأمم كافة لم يكن عندنا فيه إلا إكفاره واستسقاطه.
ولم نر الأمة أبغضت جواداً قط ولا حقرته بل أحبته وأعظمته بل أحبت عقبه وأعظمت من أجله رهطه.
ولا وجدناهم أبغضوا جواداً لمجاوزته حد الجود إلى السرف ولا حقرته.
بل وجدناهم يتعلمون مناقبه ويتدارسون محاسنه.
وحتى أضافوا إليه من نوادر الجميل ما لم يفعله ونحلوه من غرائب الكرم ما لم يكن يبلغه.
ولذلك زعموا أن الثناء في الدنيا يضاعف كما تضاعف الحسنات في الآخرة.
نعم وحتى أضافوا إليه كل مديح شارد وكل معروف مجهول الصاحب.
ثم وجدنا هؤلاء بأعيانهم للبخيل على ضد هذه الصفة وعلى خلاف هذا المذهب: وجدناهم يبغضونه مرة ويحقرونه مرة ويبغضون بفضل بغضه ولده ويحتقرون بفضل احتقارهم له رهطه ويضيفون إليه من نوادر اللؤم ما لم يبلغه ومن غرائب البخل ما لم يفعله.
وحتى ضاعفوا عليه من سوء الثناء بقدر ما ضاعفوا للجواد من حسن الثناء.
وعلى أنا لا نجد الجوائح إلى أموال الأسخياء أسرع منها إلى أموال البخلاء ولا رأينا عدد من افتقر من البخلاء أقل.
والبخيل عند الناس ليس هو الذي يبخل على نفسه فقط فقد يستحق عندهم اسم البخيل ويستوجب الذم من لا يدع لنفسه هوى إلا ركبه ولا حاجة إلا قضاها ولا شهوة إلا ركبها وبلغ فيها غايته.
وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهداً في كل ما أوجب الشكر ونوه وقد يعلق البخيل على نفسه من المؤن ويلزمها من الكلف ويتخذ من الجواري والخدم ومن الدواب والحشم ومن الآنية العجيبة ومن البزة الفاخرة.
والشارة الحسنة ما يربى على نفقة السخي المثري ويضعف على جود الجواد الكريم.
فيذهب ماله وهو مذموم ويتغير حاله وهو ملوم.
وربما غلب عليه حب القيان واستهتر بالخصيان.
وربما أفرط في حب الصيد واستولى عليه حب المراكب.
وربما كان إتلافه في العرس والخرس والوليمة وإسرافه في الإعذار وفي العقيقة والوكيرة.
وربما ذهبت أمواله في الوضائع والودائع.
وربما كان شديد البخل شديد الحب للذكر ويكون بخله أوشج ولؤمه أقبح فينفق أمواله ويتلف خزائنه ولم يخرج كفافاً ولم ينج سليماً.
كأنك لم تر بخيلاً مخدوعاً وبخيلاً مضعوفاً وبخيلاً مضياعاً وبخيلاً نفاجاً وبخيلاً ذهب ماله في البناء وبخيلاً ذهب ماله في الكيمياء وبخيلاً أنفق ماله في طمع كاذب وعلى أمل خائب وفي طلب الولايات والدخول في القبالات وكانت فتنته بما يؤمل من الإمرة فوق فتنته بما قد حواه من الذهب والفضة.
قد رأيناه ينفق على مائدته وفاكهته ألف درهم في كل يوم وعنده في كل يوم عرس ولأن يطعن طاعن في الإسلام أهون عليه من أن يطعن طاعن في الرغيف الثاني ولشق عصا الدين وإنما صارت الآفات إلى أموال البخلاء أسرع والجوائح عليهم أكلب لأنهم أقل توكلاً وأسوأ بالله ظناً.
والجواد إما أن يكون متوكلاً وإما أن يكون أحسن بالله ظناً.
وهو على كل حال بالمتوكل أشبه وإلى ما أشبهه أنزع.
وكيفما دار أمره ورجعت الحال به فليس ممن يتكل على حزمه ويلجأ إلى كيسه ويرجع إلى جودة احتياطه وشدة احتراسه.
واعتلال البخيل بالحدثان وسوء الظن بتقلب الزمان إنما هو كناية عن سوء الظن بخالق الحدثان وبالذي يحدث الأزمان وأهل الزمان.
وهل تجري الأحداث إلا على تقدير المحدث لها وهل تختلف الأزمنة إلا على تصريف من دبرها أولسنا وإن جهلنا أسبابها فقد أيقنا بأنها تجري إلى غاياتها والدليل على أنه ليس بهم خوف الفقر وأن الجمع والمنع إما أن يكون عادة منهم أو طبيعة فيهم أنك قد تجد الملك بخيلاً ومملكته أوسع وخرجه أدر وعدوه أسكن.
وتجد أحزم منه جواداً وإن كانت مملكته أضيق وخرجه أقل وعدوه أشد حركة.
وقد علمنا أن الزنج أقصر الناس مرة وروية وأذهلهم عن معرفة العاقبة.
فلو كان سخاؤهم إنما هو لكلال حدهم وتكون الروم أبخل من الصقالبة وكان ينبغي في الرجال في الجملة وكان ينبغي أن يكون أقل البخلاء عقلاً أعقل من أشد الأجواد عقلاً وكان ينبغي للكلب - وهو قالوا: " هو أسخى من لا فظة " و " الأم من كلب على جيفة " و " الأم من كلب على عرق ".
وقالوا: " أجع كلبك يتبعك " و " نعم كلب في بؤس أهله " ونشهد أن محمداً عبده ورسوله " سمن كلبك يأكلك " و " أحرص من كلب على عقي صبي " و " أجوع من كلبة حومل " و " لهو أبذأ من كلب " " حش فلان من خرء الكلب " و " اخسأ! " كما يقال للكلب و " كالكلب في الآرى: لا هو يعتلف ولا هو يترك الدابة تعتلف ".
وقال الشاعر: سرت ما سرت من ليلها ثم عرست على رجل بالعرج ألأم من كلب وقال الله جل ذكره: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}.
وكان ينبغي في هذا القياس أن يكون المراوزة أعقل البرية وأهل خراسان أدرى البرية.
ونحن لا نجد الجواد يفر من اسم السرف إلى الجود كما نجد البخيل يفر من اسم البخل إلى الاقتصاد.
ونجد الشجاع يفر من اسم المنهزم والمستحي يفر من اسم الخجل.
ولو قيل لخطيب ثابت الجنان: وقاح لجزع - فلو لم يكن من فضيلة الجود إلا أن جميع المتجاوزين لحدود أصناف الخير يكرهون اسم تلك الفضلة - إلا الجواد لقد كان في ذلك ما يبين قدره ويظهر فضله.
المال فاتن والنفس راغبة والأموال ممنوعة وهي على ما منعت حريصة.
وللنفوس في المكاثرة علة معروفة لأن من لا فكرة له ولا روية موكل بتعظيم ذي الثروة وإن لم تكن منه منالة.
وقد قال الأول: وزادها كلفاً بالحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا وفي بعض كتب الفرس: كل عزيز تحت القدرة فهو ليل.
وقالت معاذة العدوية: كل مقدور عليه فمقلي أو محقور.
ولو كانوا لأولادهم يجمعون ولهم يكدون ومن أجلهم يحرصون لجعلوا لهم كثيراً مما يطلبون ولتركوا محاسبتهم في كثير مما يشتهون.
وهذا بعض ما بغض بعض المورثين إلى الوارثين وزهد الأخلاف في طول عمر الأسلاف.
ولو كانوا لأولادهم يمهدون ولهم يجمعون لما جمع الخصيان الأموال ولما كنز الرهبان الكنوز ولاستراح العاقر من ذل الرغبة ولسلم العقيم من كد الحرص.
وكيف ونحن نجده بعد أن يموت ابنه الذي كان يعتل به والذي من أجله كان يجمع على حاله في الطلب والحرص وعلى مثل ما كان عليه من الجمع والمنع.
والعامة لم تقصر في الطلب والحكرة والبخلاء لم يحدوا شيئاً من جهدهم ولا أعفوا بعد قدرتهم ولا قصروا في شيء من الحرص والحصر لأنهم في دار قلعة وبعرض نقلة.
حتى لو فالبخيل مجتهد والعامي غير مقصر.
فمن لم يستعن على ما وصفنا بطبيعة قوية وبشهوة شديدة وبنظر شاف كان إما عامياً وإما بخيلاً شقياً - ففيم اعتلالهم بأولادهم واحتجاجهم بخوف التلون من أزمنتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوافد كذب عنده كذبة وكان جواداً: لولا خصلة ومقك الله عليها لشردت بك من وافد قوم.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل قال: ومن هم قال: بنو مدلج.
قال: يمنعني من ذاك قراهم الضيف وصلتهم الرحم.
وقال لهم أيضاً: إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا.
وقال للأنصار: من سيدكم قالوا: الحر بن قيس على أنه يزن فينا ببخل فقال: وأي داء أدوأ من البخل ثم جعله من أدوإ الداء.
وقال للأنصار: أما والله ما علمتكم إلا لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.
وقال: كفى بالمرء حرصاً ركوبه البحر.
وقال: لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى ثالثاً ولا يشبع ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
وقال: السخاء من الحياء والحياء من الإيمان.
وقال: إن الله جواد يحب الجود.
وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
وقال: لا توكي فيوكي عليك.
وقال: لا تحص فيحصى عليك.
وقالوا: لا ينفعك من زاد ما تبقى.
ولم يسم الذهب والفضة بالحجرين إلا وهو يريد أن يضع من أقدارهما ومن فتنة الناس بهما.
وقال لقيس بن عاصم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت وما لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت.
وما سوى ذلك فللوارث.
وقال النمر بن تولب: وحثت على جمع ومنع ونفسها لها في صروف الدهر حق كذوب وكائن رأينا من كريم مرزإ أخي ثقة طلق اليدين وهوب شهدت وفاتوني.
وكنت حبستني فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي أعاذل إن يصبح صداي بقفرة بعيداً نآني صاحبي وقريبي ترى أن ما أبقيت لم أك ربه وأن الذي أمضيت كان نصيبي وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب في رعيها ودءوب وذي وغدا رب سواه يسوقها وبدل أحجار وجال قليب وقال أيضاً: قامت تباكي أن سبأت لفتية زقاً وخابية بعود مقطع وقريت في مقري قلائص أربعاً وقريت بعد قرى قلائص أربع أتبكيا من كل شيء هين سفه بكاء العين ما لم تدمع لا تطرديهم عن فراشي إنه لابد يوماً أن سيخلو مضجعي هلا سألت بعادياء وبيته والخيل والخمر التي لم تمنع وقال الحارث بن حلزة: بينا الفتى يسعى ويسعى له تاح له من أمره خالج يترك ما رقح من عيشه يعبث فيه همج هامج لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج وقال الهذلي: إن الكرام مناهبو نعم المجد كلهم فناهب أخلف وأتلف كل شي ء ذرعته الريح ذاهب وقالت امرأة: أنت وهبت الفتية السلاهب وإبلاً يحار فيها الحالب وغنماً مثل الجراد الهارب متاع أيام وكل ذاهب وقال تميم بن مقبل: وقال الخطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وجاء في الأثر: إن أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة.
وفي المثل: اصنع الخير ولو إلى كلب: وقال في الحث على القليل فضلاً على الكثير: قال الله جل ذكره: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وقالت عائشة في حبة عنب: إن فيها لمثاقيل ذر.
ولذلك قالوا في المثل: من حقر حرم.
وقال سلم بن قتيبة: يستحي أحدهم من تقريب القليل من الطعام ويأبى أعظم منه.
وقال: جهد المرء أكثر من عفوه.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهد المقل على عفو المكثر وإن كان مبلغ جهده قليلاً ومبلغ عفو المكثر كثيراً.
وقالوا: لا يمنعك من معروف صغره.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة.
وقال: لا تحقروا اللقمة فإنها تعود كالجبل العظيم لقول الله جل ذكره: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
وقال: لا تردوه ولو بصلة حبل.
وقالت العرب: أتاكم أخوكم يستتمكم فأتموا له.
وقالوا: مانع الإتمام ألوم.
وقالوا: البخيل إن سأل ألحف وإن سئل سوف.
وقالوا: إن سئل جحد وإن أعطى حقد.
وقالوا: يرد قبل أن يسمع ويغضب قبل أن يفهم.
وقالوا: البخيل إذا سئل ارتز وإذا سئل الجواد اهتز.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينادي كل يوم مناديان من السماء: يقول أحدهما: اللهم عجل لمنفق خلفاً ويقول الآخر: اللهم عجل لممسك تلفاً ).
وقالوا: شر الثلاثة المليم يمنع دره ودر غيره.
وقال الله جل ذكره: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.
وقالوا في المثل - إن ألجأك الدهر إلى بخيل: شر ما ألجأك إلى مخة عرقوب.
وقال: النبي صلى الله عليه وسلم: ( قل العدل وأعط الفضل ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنهاكم عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات ).
وقال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
وقال: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقالوا في الصبر على النائبة وفي عاقبة الصبر: عند الصباح يحمد القوم السري.
وقالوا: الغمرات ثم ينجلين.
وقال الخريمي: ودون الندى في كل قلب ثنية بها مصعد حزن ومنحدر سهل وود الفتى في كل نيل ينيله - إذا ما انقضى - لو أن نائله جزل وقالوا: خير الناس خير الناس للناس وشر الناس شر الناس للناس.
وقالوا: خير مالك ما نفعك.
وقالوا عجباً لفرط الكبرة مع شباب الرغبة! كلنا يأمل مداً في الأجل والمنايا هي آفات الأمل وقال عبيد الله بن عكراش: زمن خون ووارث شفون وكاسب زون.
فلا تأمن الخون وكن وارث الشفون.
وقال: يهرم ابن آدم ويشب معه خصلتان: الحرص والأمل.
وكانوا يعيبون من يأكل وحده وقالوا: ما أكل ابن عمر وحده قط.
وقالوا: ما أكل الحسن وحده قط.
وسمع مجاشع الربعي قولهم: الشحيح أعذر من الظالم فقال: أخزى الله أمرين خيرهما الشح.
وقال بكر بن عبد الله المزني: لو كان هذا المسجد مفعماً بالرجال ثم قيل لي: من خيرهم لقلت: خيرهم لهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بشراركم قالوا: بلى يا رسول الله
قال: من نزل وحده ومنع رفده وجلد عبده ).
وقالت امرأة عند جنازة رجل: أما والله ما كان مالك لبطنك ولا أمرك لعرسك.
فلما بلغت الرسالة ابن التوأم كره أن يجيب أبا العاص لما في ذلك من المناقشة والمباينة وخاف أن يترقى الأمر إلى أكثر من ذلك.
فكتب هذه وبعث بها إلى الثقفي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني ما كان من ذكر أبي العاص لنا وتنويهه بأسمائنا وتشنيعه علينا.
وليس يمنعنا من جوابه إلا أنه إن أجابنا لم يكن جوابنا إياه على قوله الثاني أحق بالترك من جوابنا له على قوله الأول.
فإن نحن جعلنا لابتدائه جواباً وجعلنا لجوابه الثاني جواباً خرجنا إلى التهاتر وصرنا إلى التخابر.
ومن خرج إلى ذلك فقد رضي باللجاج حظاً وبالسخف نصيباً.
وليس يحترس من أسباب اللجاج إلا من عرف أسباب البلوى.
ومن وقاه الله سوء التكفي وسخفه وعصمه من سوء التصميم ونكده فقد اعتدلت طباعه وتساوت خواطره.
ومن قامت أخلاطه على الاعتدال وتكافأت خواطره في الوزن لم يعرف من الأعمال إلا الاقتصاد ولم يجد أفعاله أبداً إلا بين التقصير والإفراط لأن الموزون لا يولد إلا موزوناً كما أن المختلف لا يولد إلا مختلفاً.
فالمتابع لا يثنيه زجر وليست له غاية دون التلف.
والمتكفي ليس له مأتى ولا جهة ولا له رقية ولا فيه حيلة.
وكل متلون في الأرض فمنحل العقد ميسر لكل ريح.
فدع عنك خلطة الإمعة فإنه حارص لا خير فيه واجتنب ركوب الجموح ذي النزوات فإن غايته القتل الزؤاف ولا في الحرون ذي التصمم.
والمتلون شر من المصمم إذ كنت لا تعرف له حالاً يقصد إليها ولا جهة يعمل عليها.
ولذلك صار العاقل يخدع العاقل ولا يخدع الأحمق لأن أبواب تدبير العاقل وحيلة معروفة وطرق خواطره مسلوكه ومذاهبه محصورة معدودة.وليس لتدبير الأحمق وحيله جهة واحدة من أخطأها كذب.
والخبر الصادق عن الشيء الواحد واحد.
والخبز الكاذب عن الشيء الواحد لا يحصى له عدد ولا يوقف منه على حد.
والمصمم قتله بالإجهاز والمتلون قتله بالتعذيب.
فإن قلنا فليس إليه نقصد وإن احتججنا فليسنا عليه نرد.
ولكنا إليك نقصد بالقول وإليك نريد بالمشورة.
وقد قالوا: احفظ سرك فإن سرك من دمك.
وسواء ذهاب نفسك وذهاب ما به يكون قوام نفسك.
قال المنجاب العنبري: " ليس بكبير ما أصلحه المال ".
وفقد الشيء الذي به تصلح الأمور أعظم من الأمور.
ولهذا قالوا في الإبل: " لو لم يكن فيها إلا أنها رقوء الدم " - فالشيء الذي هو ثمن الإبل وغير الإبل أحق بالصون.
وقد قضوا بأن حفظ المال أشد من جمعه.
ولذلك قال الشاعر: وحفظك مالاً قد عنيت بجمعه أشد من الجمع الذي أنت طالبه ولذلك قال مشتري الأرض لبائعها حين قال له البائع: دفعتها إليك بطيئة الإجابة عظيمة المؤنة.
- قال: دفعتها إليك بطيئة الاجتماع سريعة التفرق.
والدرهم هو القطب الذي تدور عليه رحى الدنيا.
واعلم أن التخلص من نزوات الدرهم وتقلبه - من سكر الغنى - وتفلته شديد.
فلو كان إذ تفلت كان حارسه صحيح العقل سليم الجوارح لرده في عقاله ولشده بوثاق.
ولكنا وجدنا ضعفه عن ضبطه بقدر قلقه في ولا تغتر يقولهم: مال صامت فإنه أنطق من كل خطيب وأنم من كل نمام.
فلا تكترث بقولهم: هذين الحجرين فتتوهم جمودهما وسكونهما وقلة ظعنهما وطول إقامتهما فإن عملهما وهما ساكنان ونقضهما للطبائع وهما ثابتان أكثر من صنيع السم الناقع والسبع العادي.
فإن كنت لا تكتفي بصنيعه حتى تمده ولا تحتال فيه حتى يحتال له فالقبر خير لك من الفقر والسجن خير لك من الذل.
وقولي هذا مرة يعقب حلاوة الأبد.
فخذ لنفسك بالثقة.
فقولك الماضي حلو يعقب مرارة الأبد.
فخذ لنفسك بالثقة.
ولا ترض أن يكون الحرباء الراكب العود أحزم منك فإن الشاعر يقول: أني أتيح لها حرباء تنضبة لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا واحذر أن تخرج من مالك درهماً حتى ترى مكانه خيراً منه.
ولا تنظر إلى كثرته فإن رمل عالج فلو أخذ منه ولم يرد عليه لذهب عن آخره.
إن القوم قد أكثروا في ذكر الجود وتفضيله وفي ذكر الكرم وتشريفه وسموا السرف جوداً وجعلوه كرماً.
وكيف يكون كذلك وهو نتاج ما بين الضعف والنفج وكيف والعطاء لا يكون سرفاً إلا بعد مجاوزة الحق وليس وراء الحق إلى الباطل كرم.
وإذا كان الباطل كرماً كان الحق لؤماً.
والسرف - حفظك الله - معصية.
وإذا كانت معصية الله كرماً كانت طاعته لؤماً.
ولئن جمعهما اسم واحد وشملهما حكم واحد ومضادة الحق للباطل كمضادة الصدق للكذب والوفاء للغدر والجور للعدل والعلم للجهل ليجمعن هذه الخصال اسم واحد وليشملنها حكم واحد.
وقد وجنا الله عاب السرف وعاب الحمية وعاب المعصية.
ووجدناه خص السرف بما لم يخص به الحمية لأنه ليس حب المرء لرهطه من المعصية ولا أنفقته من الضيم من حمية الجاهلية.
وإنما المعصية ما جاوز الحق والحمية المعيبة ما تعدى القصد.
فوجدنا اسم الأنفة قد يقع محموداً ومذموماً وما وجدنا اسم المعصية ولا اسم السرف يقع أبداً إلا مذموماً.
وإنما يسر باسم السرف جاهل لا علم له أو رجل إنما يسر به لأن أحداً لا يسميه مسرفاً حتى يكون عنده قد جاوز حد الجود وحكم له بالحق ثم أردفه بالباطل.
فإن سر من غير هذا الوجه فقد شارك المادح في الخطإ وشاكله في وضع الشيء في غير موضعه.
وقد أكثروا في ذكر الكرم.
وما الكرم إلا كبعض الخصال المحمودة التي لم يعدمها بعض الذم.
وليس شيء يخلوا من بعض النقص والوهن.
وقد زعم الأولون أن الكرم يسبب الغبا وأن الغبا يسبب البله وأنه ليس وراء البله إلا العته.
وقد حكوا عن كسرى أنه قال: " احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع " - وسواء جاع فظلم وأحفظ وعسف أم جاع وكذب وضرع وأسف.
وسواء جاع فظلم غيره أم جاع فظلم نفسه.
والظلم لؤم.
وإن كان الظلم ليس بلؤم فالإنصاف ليس بكرم.
فالجود إذا كان لله كان شكراً له والشكر كرم.
ولن يكون الجود - إذا كان معصية - كرماً.
فكيف يتكرم من يتوصل بأياديك إلى معصيتك وبنعمتك إلى سخطك فليس الكرم إلا الطاعة.
وليس اللؤم إلا المعصية وليس بجود ما جاوز الحق وليس بكرم ما خالف الشكر.
ولئن كان مجاوز الحق كريماً ليكونن المقصر دونه كريماً.
فإن قضيتم بقول العامة فالعامة ليست بقدوة.
وكيف يكون قدوة من لا ينظر ولا يحصل ولا يفكر ولا يمثل وإن قضيتم بأقاويل الشعراء وما كان عليه أهل الجاهلية الجهلاء فما قبحوه مما لا يشك في حسنه أكثر من أن نقف عليه أو نتشاغل باستقصائه.
على أنه ليس بجود إلا ما أوجب الشكر كما أنه ليس ببخل إلا ما أوجب اللؤم.
ولن تكون العطية نعمة على المعطى حتى تراود بها نفس ذلك المعطى.
ولن يجب عليه الشكر إلا مع شريطة القصد.
وكل من كان جوده يرجع إليه ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك ولو تهيأ له ذلك المعنى في سواك لما قصد إليك - فإنما جعلك معبراً لدرك حاجته ومركباً لبلوغ محبته.
ولولا بعض القول لوجب لك عليه حق يجب به الشكر.
فليس يجب لمن كان كذلك شكر وإن انتفعت بذلك منه إذا كان لنفسه عمل لأنه لو تهيأ له ذلك النفع في غيرك لما تخطاه إليك.
وإنما يوصف بالجود في الحقيقة ويشكر على النفع في حجة العقل - الذي إن جاد عليك فلك جاد ونفعك أراد من غير أن يرجع إليه جوده بشيء من المنافع على جهة من الجهات وهو الله وحده لا شريك له.
فإن شكرنا للناس على بعض ما قد جرى لنا على أيديهم فإنما هو لأمرين: أحدهما التعبد وقد نعبد الله بتعظيم الوالدين وإن كانا شيطانين وتعظيم من هو أسن منا وإن كنا أفضل منه.
والآخر لأن النفس ما لم تحصل الأمور وتميز المعاني فالسابق إليها حب من جرى لها على يده خير وإن كان لم يردها ولم يقصد إليها.
ووجدنا عطية الرجل لصاحبه لا تخلوا أن تكون لله أو لغير الله.
فإن كانت لله فثوابه على الله.
وكيف يجب علي في حجة العقل شكره وهو لو صادف ابن سبيل غيري لما حملني ولا أعطاني - وإما أن يكون إعطاؤه إياي للذكر.
فإذا كان الأمر كذلك فإنما جعلني سلماً إلى تجارته وسبباً إلى بغيته أو يكون إعطاؤه إياي من طريق الرحمة والرقة ولما يجد في فؤاده من الغصة والألم فإن كان لذلك أعطى فإنما داوى نفسه من دائه وكان كالذي رفه من خناقه.
وإنه كان إنما أعطاني من خوف يدي أو لساني أو اجترار معونتي ونصرتي فسبيله سبيل جميع ما وصفنا وفصلنا.
فلاسم الجود موضعان: أحدهما حقيقة والآخر مجاز.
فالحقيقة ما كان من الله والمجاز المشتق له من هذا الاسم.
وما كان لله كان ممدوحاً وكان لله طاعة.
فإذا لم تكن العطية من الله ولا لله فليس يجوز هذا فيما سموه جوداً فما ظنك بما سموه سرفاً أفهم ما أنا مورده عليك وواصفه لك: إن التربح والتكسب والإستئكال بالخديعة والطعم الخبيثة فاشيةغالبة ومستفيضة ظاهرة.
على أن كثيراً ممن يضاف اليوم إلى النزاهة والتكرم وغلى الصيانة والتوقي ليأخذ من ذلك بنصيب واف.
فما ظنك بدهماء الناس وجمهورهم بل ما ظنك بالشعراء والخطباء الذين إنما تعلموا المنطق لصناعة التكسب وهؤلاء قوم بودهم أن أرباب الأموال قد جاوزوا حد السلامة غلى الغفلة حتى لا يكون للأموال حارس ولا دونها مانع.
فاحذرهم ولا تنظر إلى بزة أحدهم فإن المسكين أقنع منه ولا تنظر غل موكبه فإن السائل أعف منه.
واعلم أنه مسك مسكين وإن كان في ثياب جواد وروحه روح نذل وإن كان في جرم ملك.
وإن اختلفت وجوه مسألتهم واختلفت أقدار مطالبهم فهو مسكين.
إلا أن واحداً يطلب العلق وآخر يطلب الخرق وآخر يطلب الدوانيق وآخر يطلب الألوف.
فجهة هذا هي جهة هذا وطعمة هذا هي طعمة هذا.
وإنما يختلفون في أقدار ما يطلبون على قدر الحذق والسبب.
فأحذر رقاهم وما نصبوا لك من الشرك واحرس نعمتك وما دسوا لها من الدواهي.
واعمل على أن سحرهم يسترق الذهن ويختطف البصر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً يتكلم في حاجة فقال: هذا والله سحر الحلال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خلابة - واحذر احتمال مديحهم فإن محتمل المديح في وجهه كمادح نفسه.
إن مالك لا يسع مريديه ولا يبلغ رضا طالبيه.
ولو أرضيتهم بإسخاط مثلهم لكان ذلك خسرانا مبيناً.
فكيف ومن يسخط أضعاف من يرضى وهجاء الساخط أضر من فقد مديح الراضي.
وعلى أنهم إذا اعتوروك بمشاقصهم وتداولوك بسهامهم لم تر ممن أرضيته بإشخاطهم أحداً يناضل عنك ولا يهاجي شاعراً دونك.
بل يخليك غرضاً لسهامهم ودريئة لنبالهم.
ثم يقول: وما كان عليه لو أرضاهم! فكيف يرضيهم ورضا الجميع شيء لا ينال إني أحذرك مصارع المخدوعين وأرفعك عن مضاجع المغبونين.
إنك لست كمن لم يزل يقاسي تعذر الأمور ويتجرع مرارة العيش ويتحمل ثقل الكد ويشرب بكأس الذل حتى كان يمرن على ذلك جلده ويسكن عليه قلبه.
وفقر مثلك مضاعف الألم وجزع من لم يعرف الألم أشد.
ومن لم يزل فقيراً فهو لا يعرف الشامتين ولا يدخله المكروه من سرور الحاسدين ولا يلام على فقره ولا يصير موعظة لغيره وحديثاً يبقى ذكره ويلعنه بعد الممات ولده.
ودعني من حكايات المستأكلين ورقي الخادعين فما زال الناس يحفظون أموالهم من مواقع السرف ويخبئونها من وجوه التبذير.
ودعني مما لا نراه إلا في الأشعار المتكلفة والأخبار المولدة والكتب الموضوعة.
فقد قال بعض أهل زماننا: ذهبت المكارم إلا من الكتب! فخذ فيما تعلم ودع نفسك مما لا تعلم.
هل رأيت أحداً قط أنفق ماله على قوم كان غناهم سبب فقره أنه سلم عليهم حين افتقر فردوا عليه - فضلاً على غير ذلك أولست قد رأيتهم بين محمق ومحتجب عنه وبين من يقول: فهلا أنزل حاجته بفلان الذي كان يفضله ويقدمه ويؤثره ويخصه - ثم لعل بعضهم أن يتجنى عليه ذنوباً ليجعلها عذراً في منعه وسبباً إلى حرمانه.
قال الله جل ذكره: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.
فأنا القائم عليك بالموعظة والزجر والأمر والنهي وأنت سالم العقل والعرض وافر المال حسن الحال.
فاتق أن أقوم غداً على رأسك بالتقريع والتعبير والتوبيخ والتأنيب وأنت عليل القلب مختل العرض.
عديم من المال سيئ الحال.
ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيوف لأن الوقت قصير والحس مغمور.
ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة وتعجز الحيلة ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً وابن عم شامتاً وجاراً حاسراً وولياً قد تحول عدواً وزوجة مختلعة وجارية مستبيعة وعبداً يحقرك وولداً ينتهرك.
فانظر أين موقع فوت الثناء من موقع ما عددنا عليك من البلاء على أن الثناء طعم ولعلك ألا تطعمه والحمد أرزاق ولعلك ألا تحرمه.
وما يضيع من إحسان الناس أكثر.
وعلى أن الحفظ قد ذهب بموت أهله.
ألا ترى أن الشعر لما كسد أفحم أهله ولما دخل النقص على كل شيء أخ الشعر منه بنصيبه ولما تحولت الدولة في العجم - والعجم لا تحوط الأنساب ولا تحفظ المقامات - لأن من كان في الريف والكفاية وكان مغموراً بسكر الغنى كثر نسيانه وقلت خواطره.
ومن احتاج تحركت همته وكثر تنقيره.
وعيب الغني أنه يورث البلادة وفضيلة الفقر أنه يبعث الفكر.
وإن أنت صحبت الغني بإهمال النفس أسكرك الغني.
وسكر الغني سبة المستأكلين وتهمة الخداعين.
وإن كنت لا ترضى بحظ النائم وبعيش البهائم وأحببت أن تجمع مع تمام نفس المثري ومع عز الغني وسرور القدرة فطنة المخف وخواطر المقل ومعرفة الهارب واستدلال الطالب - اقتصدت في الإنفاق وكنت معداً للحدثان ومحترساً من كل خداع.
لست تبلغ حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل و حيل طراق البلدان وحيل أصحاب الكيمياء وحيل التجار في الأسواق والصناع في جميع الصناعات وحيل أصحاب الحروب وحيل المستأكلين والمتكسبين ولو جمعت الخبر والسحر والتمائم و السم لكانت حيلهم في الناس أشد تغلغلاً وأعرض وأسرى في عمق البدن وأدخل إلى سويداء القلب وإلى أم الدماغ وإلى صميم الكبد ولهي أدق مسلكاً وأبعد غاية من العرق الساري والشبه النازع ولو اتخذت الحيطان الرفيعة الثخينة والأقفال المحكمة الوثيقة ولو اتخذت الممارق والجواسق والأبواب الشداد والحرس المتناوبين بأغلظ المؤن وأشد الكلف وتركت التقدم فيما هو أحضر ضرراً وأدوم شراً ولا غرم عليك في الحراسة فيه ولا مشقة عليك في التحفظ منه.
إنك إن فتحت لهم على نفسك مثل سم الخياط جعلوا فيه نهجاً ولقي رحباً.
فأحكم بابك ولو جعلت الباب مبهماً والقفل مصمتاً لتسوروا عليك من فوقك.
ولو رفعت سمكة إلى العيوق لنقبوا عليك من تحتك.
قال أبو الدرداء: نعم صومعة المؤمن بيته.
وقال ابن سيرين: العزلة عبادة.
حلاوة حديثهم تدعو إلى الاستكثار منهم وتدعو إلى إحضار غرائب شهواتهم.
فمن ذلك قول بعضهم لبعض أصحابه: كل رخلة واشرب مشعلاً ثم تجشأ واحدة لو أن عليها رحى لطحنت! ومن ذلك قول الآخر حين دخل على قوم وهم يشربون وعندهم قيلن فقالوا: اقترح أي صوت شئت قال: أقترح نشيش مقلي! ومن ذلك قول المديني: من تصبح بسبع موزات وبقدح من لبن الأوراك تجشأ بخور الكعبة.
ومن ذلك قولهم لبعض هؤلاء وقدامهم خبيص: أيما أطيب هذا أو الفالوذج أواللوزينج قال: لا أقضي على غائب.
ومن ذلك كلام الجارود بن أبي سبرة لبلال بن أبي بردة حين قال له: صف لي عبد الأعلى وطعامه.
قال: يأتيه الخباز فيمثل بين يديه فيقول: ما عندك فيقول: عندي جدي كذا وعناق كذا وبطة كذا - حتى يأتي على جميع ما عنده.
قال: وما يدعوه إلى هذا قال: ليقتصر كل امرئ في الأكل حتى إذا أتي بالذي يشتهي بلغ منه حاجته.
قال: ثم ماذا قال: ثم يؤتى بالمائدة فيتضايقون حتى يخوي تخوية الظليم.
فيجدون ويهزل حتى إذا فتروا أكل أكل الجائع المقرور.
وقال آخر: أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل ورقطاء من الحمص ذات جفافين من اللحم لها جناحان من العراق أضرب فيها ضرب اليتيم عند وصي السوء! وسئل بعضهم عن حظوظ البلدان في الطعام وما قسم لكل قوم منه فقال: ذهبت الروم بالجشيم والحشو وذهبت فارس بالبارد والحلو.
وقال عمر: لفارس الشفارج والحموض.
فقال دوسر المديني: لنا الهرائس والقلايا ولأهل البدو اللبأ والسلاء والجراد والكمأة والخبزة في الرائب والتمر بالزبد.
وقد قال الشاعر: ألا ليت خبزاً قد تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد ولهم البرمة والخلاصة والحيس والوطيئة.
وقال أعرابي: أتينا ببر كأفواه البعران فخبزنا منه خبزة زيت في النار فجعل الجمر يتحدر عنها تحدر الحشو عن البطان.
ثم ثردناها فجعل الثريد يجول في الإهالة جولان الضبعان في ونعت السويق بأنه من عدد المسافر وطعام العجلان وغذاء المبكر وبلغة المريض.
يشد فؤاد الحزين ويرد من نفس المحدود.
وحيد في السمين ومنعوت في الطيب.
قفاره يجلو البلغم ومسمونه يصفي الدم إن شئت كان ثريداً وإن شئت كان خبيصاً وإن شئت كان طعاماً وإن شئت كان شراباً.
وقيل لبعض هؤلاء اللعامظة والمستأكلين والسفافين المقفعين ورئي سميناً: ما أسمنك قال: أكلي الحار وشربي القار والاتكاء على شمالي وأكلي من غير مالي.
وقد قال الشاعر: وإن امتلأ البطن في حسب الفتى قليل الغناء وهو في الجسم صالح وقيل لآخر: ما أسمنك قال: قلة الفكرة وطول الدعة والنوم على الكظة.
وقال الحجاج للغضبان بن القبعثري: ما أسمنك قال: القيد والرتعة.
ومن كان في ضيافة الأمير سمن.
وقيل لآخر: إنك لحسن السمنة.
قال: آكل لباب البر وصغار المعز وأدهن بخام البنفسج وألبس الكتان.
والله لو كان من يسأل يعطى لما قام كرم العطية بلؤم المسألة.
ومدار الصواب على طيب المكسبة والاقتصاد في النفقة.
وقد قال بعض العرب: اللهم إني أعوذ بك من بعض الرزق حين رأى نافجة من ماله من صداق أمه.
وأي سائل كان ألحف مسألة من الخطيئة وألأم ومن ألأم من جرير بن الخطفي وأبخل ومن أمنع من كثير وأشح من ابن هرمة ومن كان يشق غبار ابن أبي حفصة ومن كان يصطلي بنار أبي العتاهية ومن كأبي نواس في بخله أو كان كأبي يعقوب الخريمي في دقة نظره وكثرة كسبه ومن كان أكثر نحراً لجزرة لم تخلق من ابن هرمة وأطعن برمح لم ينبت وأطعم لطعام لم يزرع من الخريمي فأين أنت عن ابن يسير وأين تذهب عن ابن أبي كريمة ولم تقصر في ذكر الرقاشي ولم تذكر سره إن الأعرابي شر من الحاضر سائل جبار وثابة ملاق إن مدح كذب وإن هجا كذب وإن سب كذب وإن طمع كذب.
لا يعرفه إلا نطف أو أحمق ولا يعطيه غلا من يحبه ولا يحبه غلا من هو في طباعه.
ما أبطأكم عن البذل في الحق! وأسرعكم إلى البذل في الباطل! فإن كنتم الشعراء تفضلون وإلى قولهم ترجعون فقد قال الشاعر: قليل المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثير على الفساد وقد قال الشماخ بن ضرار: وقال أحيحة بن الجلاح: استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب من ابن عم ولا عم ولا خال إني أكب على الزوراء أعمرها إن الكريم على الأقوام ذو مال وقال أيضاً: استغن عن كل ذي قربى وذي رحم إن الغني من استغنى عن الناس والبس عدوك في رفق وفي دعة لباس ذي إربة للدهر لباس ولا يغرنك أضغان مزملة قد يضرب الدبر الدامي بأحلاس وقال سهل بن هارون: إذا امرؤ ضاق عني لم يضق خلقي من أن يراني غنياً عنه بالياس فلا يراني إذا لم يرع آصرتي مستمر يا درراً منه بإبساس لا أطلب المال كي أغني بفضلته ما كان مطلبه فقراً إلى الناس وقال أبو العتاهية: أنت ما استغنيت عن صا - حبك الدهر أخوه فلو أني أشاء نعمت بالاً وباكرني صبوح أو نشيل
ولاعبني على الأنماط لعس على أنيابهن الزنجبيل ولكني خلقت إزاء مال فأبخل بعد ذلك أو أنيل وقال آخر: أبا مصلح أصلح ولا تك مفسداً فإن صلاح المال خير من الفقر ألم تر أن المرء يزداد عزة على قومه أن يعلموا أنه مثري وقال عروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له نسب وخير ويقصى في الندى وتزدريه حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ولكن الغني رب غفور وقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: فلعلي أن يكثر المال عندي ويعرى من المغارم ظهري ويرى أعبد لنا وأواق ومناصيف من خوادم عشر وتجر الأذيال في نعمة زو ل تقولان: ضع عصاك لدهر وى كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ويجنب سر النجى ولكن أخا الفقر محضر كل شر وقال آخر: وللمال مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب وقال الأخنس بن شهاب: وقد عشت دهراً والغواة صحابتي أولئك إخواني الذين أصاحب فأديت عني ما استعرت من الصبا وللمال مني اليوم راع وكاسب وقال ابن أذينة الثقفي: أطعت العرس في الشهوات حتى أعادتني عسيفاً عبد عبد إذا ما جئتها قد بعت عتقاً تعانق أو تقبل أو تفدى من يجمع المال ولا يثبه ويترك العام لعام جدبه يهن على الناس هوان كلبه وقد قيل في المثل: الكد قبل المد وقال لقيط: الغزو أدر للقاح وأحد للسلاح.
وقال أبو المعافى: وإن التواني أنكح العجز بنته وساق إليها حين زوجها مهراً فراشاً وطيئاً ثم قال لها: اتكي فقصركما - لابد - أن تلدا الفقرا وقال عثمان بن أبي العاص: ساعة لدنياك وساعة لآخرتك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وقال: خير الصدقة ما أبقى غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلث. والثلث كثير إنك إن تدع ولدك أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ).
وقال ابن عباس: وددت أن الناس غضوا من الثلث شيئاً لقول النبي عليه السلام: الثلث.
والثلث كثير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
وأنتم ترون أن المجد والكرم أن أفقر نفسي بإغناء غيري وأن أحوط عيال غيري بإضاعة عيالي! كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض أخرى جناحا وقال آخر: كمفسد أدناه ومصلح غيره ولم يأتمر في ذاك أمر صلاح وقال آخر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا وقال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.
وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
فأذن في العفو ولم يأذن في الجهد وأذن في الفضول ولم يأذن في الأصول.
وأراد كعب بن مالك أن يتصدق بماله.فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك مالك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يمنعه من إخراج ماله في الصدقة وأنتم تأمرونه بإخراجه في السرف والتبذير! وخرج غيلان بن سلمة من جميع ماله فأكرهه عمر على الرجوع فيه وقال: لو مت لرجمت قبرك كما يرجم قبر أبي رغال.
وقال الله جل وعز: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكفيك ما بلغك المحل.
وقال: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وقال الله جل ذكره: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.
ولذلك قالوا: خير مالك ما نفعك وخير الأمور أواسطها وشر السير الحقحقة والحسنة بين السيئتين.
وقالوا: دين الله بين المقصر والغالي.
وقالوا حنيفة المثل: بينهما يرمى الرامي.
وقالوا: عليك بالسداد والاقتصاد ولا وكس ولا شطط.
وقالوا: بين الممخة والعجفاء.
وقالوا: لا تكن حلواً فتبتلع ولا مراً فتلفظ.
وقالوا في المثل: ليس الري عن التشاف.
وقالوا: يا عاد اذكر حلاً.
وقالوا: الرشف أنقع للظمآن.
وقالوا: القليل الدائم أكثر من الكثير المنقطع.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من الحق ما ملها.
وقال الشاعر: وإني لحلو تعتريني مرارة وإني لصعب الرأس غير جموح وقالوا في عدل المصلح ولائمة المقتصد: الشحيح أعذر من الظالم.
وقالوا: ليس من العدل سرعة العذل.
وقالوا: لعل له عذراً وأنت تلوم.
وقالوا: رب لائم مليم.
وقال الأحنف: رب ملوم لا ذنب له.
وقال: إعطاء السائل تضرية وإعطاء الملحف مشاركة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصلح المسألة إلا في ثلاث: فقر مدقع وغرم مفظع ودم موجع.
وقال الشاعر: الحر يلحى والعصا للعبد وليس للملحف غير الرد وقالوا: إذا جد السؤال جد المنع.
وقالوا: احذر إعطاء المخدوعين وبذل المغبونين فإن المغبون لا محمود ولا مأجور.
ولذلك قالوا: لا تكن أدنى العيرين إلى السهم.
يقول: إذا أعطيت السائلين مالك صارت مقاتلك أظهر لأعدائك من مقاتلهم.
وقالوا: الفرار بقراب أكيس.
وقال أبو الأسود: ليس من العز أن تتعرض للذل ولا من الكرم أن تستدعي اللؤم.
ومن أخرج ماله من يده افتقر ومن افتقر فلا بد له من أن يضرع والضرع لؤم.
وإن كان الجود شقيق الكرم فالأنفة أولى بالكرم.
وقد قال الأول: اللهم لا تنزلي ماء سوء فأكون امرأ سوء.
وقد قال الشاعر: واخط مع الدهر إذا ما خطا واجر مع الدهر كما يجري وقد قال الآخر: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع وشركاً من ثغرها لا تنقطع وقد صدق قول القائل: من احتاج اغتفر ومن اقتضى تجوز.
وقيل لريسيموس: تأكل في السوق قال: إن جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.
وقال: من أجدب انتجع ومن جاع جشع.
وقال: احذروا نفار النعمة فإنها نوار وليس كل شارد بمردود ولا كل ناد بمصروف وقال علي بن أبي طالب: قلما أدبر شيء فأقبل.
وقالوا: رب أكلة تمنع أكلات ورب عجلة تهب ريثاً.
وعابوا من قال: أكلة وموتة.
وقالوا: لا تطلب أثراً بعد عين.
وقالوا: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن.
فانظر كيف تخرج الدرهم ولم تخرجه.
وقالوا: شر من المررئة سوء الخلف.
وقال الشاعر: إن يكن ما به أصبت جليلاً فذهاب العزاء فيه أجل ولأن تفتقر بجائحة نازلة خير لك من أن تفتقر بجناية مكتسبة.
ومن كان سبباً لذهاب وفره لم تعدمه الحسرة من نفسه واللائمة من غيره وقلة الرحمة وكثرة الشماتة مع الإثم الموبق والهوان على الصاحب.
وذكر عمر بن الخطاب فتيان قرش وسرفهم في الإنفاق ومسابقتهم في التبذير فقال: لخرقة أحدهم أشد علي من عيلته يقول: إن إغناء الفقير أهون علي من إصلاح الفاسد.
ولا تكن على نفسك أشأم من خوتعة وعلى أهلك أشأم من البسوس وعلى قومك أشأم من عطر مشم.
ومن سلط الشهوات على ماله وحكم الهوى في ذات يده فبقي حسيراً فلا يلومن إلا نفسه.
وطوبى لك يوم تقدر على قديم تنتفع به.
وقال بعض الشعراء: أرى كل قوم يمنعون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم أخوفهم إذا ما دارت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال سئوم فهذا بياني لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم وقد كان هذا المعنى في أصحاب النبيذ أوجد.
فأما اليوم فقد استوى الناس.
قال الأضبط بن قريع لما انتقل في القبائل فأساءوا جواره بعد أن تأذى ببني سعد: بكل وا بنو سعد.
خذ بقولي ودع قول أبي العاص.
وخذ بقول من قال: عش ولا تغتر وبقول من قال: لا تطلب أثراً بعد عين وبقول من قال: املأ حبك من أول مطرة ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
أخوك من صدقك ومن أتاك من جهة عقلك ولم يأتك من جهة شهوتك.
وأخوك من احتمل ثقل نصيحتك في حظك ولم تأمن لائمته إياك في غدك.
إن أخاك الصدق من لن يخدعك ومن يضير نفسه لينفعك وقال عبيد بن الأبرص: واعلمن علماً يقيناً أنه ومن يرجى لك من ليس معك ولا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وعين من عقلك على طباعك أو ما كان لك أخ نصيح ووزير شفيق.
والزوجة الصالحة عون صدق.
والسعيد من وعظ بغيرة.
فإن أنت لم ترزق من هذا الخصال صل واحدة فلابد لك من نكبة موجعة يبقى أثرها ويلوح لك ذكرها.
ولذلك قالوا: خير مالك ما نفعك.
ولذلك قالوا: لم يذهب من مالك ما وعظك.
إن المال محروص عليه ومطلوب في قعر البحار وفي رءوس الجبال وفي دغل الغياض ومطلوب في الوعورة ا يطلب في السهولة.
وسواء فيها بطون الأودية وظهور الطرق ومشارق الأرض ومغاربها.
فطلبت بالعز وطلبت بالذل وطلبت بالوفاء وطلبت بالغدر وطلبت بالنسك كما طلبت بالفتك وطلبت بالصدق كما طلبت بالكذب وطلبت بالبذاء وطلبت بالملق - فلم تترك فيها حيلة ولا رقية حتى طلبت بالكفر بالله كما طلبت بالإيمان.
وطلبت بالسخف كما طلبت بالنبل.
فقد نصبوا الفخاخ بكل موضع ونصبوا الشرك بكل ربع.
وقد طلبك من لا يقصر دون الظفر.
وحسدك من لا ينام دون الشفاء.
وقد يهدأ الطالب الطوائل والمطلوب بذات نفسه ولا يهدأ الحريص.
يقال إنه ليس في الأرض بلدة واسطة ولا بادية شاسعة ولا طرف من الأطراف إلا وأنت واجد بها المديني والبصري والحيري.
وقد ترى شنف الفقراء للأغنياء وتسرع الرغبة إلى الملوك وبغض الماشي للراكب وعموم الحسد في المتفاوتين.
وإن لم تستعمل الحذر وتأخذ بنصيبك من المداراة وتتعلم الحزم وتجالس أصحاب الاقتصاد وتعرف الدهور - ودهرك خاصة - وتمثل لنفسك الغير حتى تتوهم نفسك فقيراً ضائعاً وحتى تتهم شمالك على يمينك وسمعك على بصرك ولا يكون أحد أتهم عند نفسك من ثقتك ولا أولى بأخذ الحذر منه من أمينك - اختطفت اختطافاً واستلبت استلاباً وذوبوا مالك وتحيفوه وألزموه السل ولم يداووه.
وقد قالوا: بلي المال ربه وإن كان أحمق.
فلا تكونن دون ذلك الأحمق.
وقالوا: لا تعدم صناع ثلة.
فلا تكونن دون تلك الصناع.
وقد قال الأول في المال المضيع المسلط عليه شهوات العيال: ليس لها راع ولكن حلبة.
وليس مالك المال المعفى من الأضراس فيقال فيه: مرعىً ولا أكولة وعشب ولا بعير.
فقصاراك مع الإصلاح أن يقوم ببطنك وبحوائجك وبما ينوبك.
ولا بقاء للمال على قلة الرعي وكثرة الحلب.
فكس في أمرك وتقدم في حفظ مالك فإن من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين.
والأكرمان: الدين والعرض.
وقد قيل: للرمي يراش السهم وعند النطاح تغلب القرناء.
وإذا رأت العرب مستأكلاً وافق غمراً قالت: ليس عليك نسجه فاسحب وخرق.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس كلهم سواء كأسنان المشط والمرء كثير بأخيه) ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك ما يرى لنفسه.
فتعرف شأن أصحابك ومعنى جلسائك.
فإن كانوا في هذه الصفة فاستعمل الحزم وإن كانوا في خلاف ذلك عملت على حسب ذلك.
إني لست أمرك إلا بما أمرك به القرآن.
ولست أوصيك إلا بما أوصاك به الرسول.
ولا أعظك إلا بما وعظ به الصالحون بعضهم بعضاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).
وقال مطرف بن الشخير: من نام تحت صدف مائل وهو ينوي التوكل فليرم بنفسه من طمار وهو ينوي التوكل! فأين التوقي الذي أمر الله به وأين التغرير الذي نهى عنه ومن طمع في السلامة من غير تسلم فقد وضع الطمع في موضع الأماني.
وإنما ينجز الله الطمع إذا كان فيما أمر به وإنما يحقق من الأمل ما كان هو المسبب له.
وفر عمر من الطاعون فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله قال نعم إلى قدر الله وقيل له: هل ينفع الحذر من القدر فقال: لو كان الحذر لا ينفع لكان الأمر به لغواً.
فإبلاء العذر هو التوكل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل قال في خصومة: حسبي الله: أبل الله عذراً فإذا أعجزك أمر فقل: حسبي الله.
وقال الشاعر: ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلي عذراً أو ليبلغ حاجة ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وقال الآخر: فإن لم يكن القاضي قضى غير عادل فبعد أمور لا ألوم لها نفسي وقال زهير البابي: إن كان التوكل أن أكون متى أخرجت مالي أيقنت بالخلف وجعلت الخلف مالاً يرجع في كيسي ومتى ما لم أحفظه أيقنت بأنه محفوظ فإني أشهدكم أني لم أتوكل قط.
إنما التوكل أن تعلم أنك متى أخذت بأدب الله أنك تتقلب في الخير فتجزى بذلك إما عاجلاً وإما آجلاً - ثم قال: فلم تجر أبو بكر ولم تجر عمر ولم تجر عثمان ولم تجر الزبير ولم تجر عبد الرحمن ولم علم عمر الناس يتجرون وكيف يشترون ويبيعون ولم قال عمر: إذا اشتريت جملاً فاجعله ضخماً فإن لم يبعه الخبر باعه المنظر ولم قال عمر: فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين.
ولم قال عثمان حين سئل عن كثرة أرباحه قال: لم أرو من ربح قط.
ولم قيل: لا تشتر عيباً ولا شيباً وهل حجر علي بن أبي طالب على ابن أخيه عبد الله بن جعفر إلا في إخراج المال في غير حقه وإعطائه في هواه وهل كان ذلك إلا في طلب الذكر والتماس الشكر وهل قال أحد: إن إنفاقه كان في الخمور والقمار وفي الفسولة والفجور وهل كان إلا فيما تسمونه جوداً وتعدونه كرماً ومن رأى أن يحجر على الكرام لكرمهم رأى أن يحجر على الحلماء لحلمهم.
وأي إمام بعد أبي بكر تريدون وبأي سلف بعد علي تفتدون.
وكيف نرجو الوفاء والقيام بالحق والصبر على النائبة من عند لعموظ مستأكل وملاق مخادع ومنهوم بالطعام شره لا يبالي بأي شيء أخذ الدرهم ومن أي وجه أصاب الدينار ولا يكترث للمنة ولا يبالي أن يكون أبداً منهوماً منعوماً عليه وليس يبالي - إذا أكل - كيف كان ذلك الطعام وكيف كان سببه وما حكمه فإن كان مالك قليلاً فإنما هو قوام عيالك وإن كان كثيراً فاجعل الفاضل لعدة نوائبك.
ولا يأمن الأيام إلا المضلل ولا يغتر بالسلامة إلا المغفل.
فأحذر طوارق البلاء وخدع رجال الدهاء.
سمنك في أديمك وغثك خير من سمين غيرك لو وجدته فكيف ودونه أسل حداد وأبواب شداد قالت امرأة لبعض العرب: إن تزوجتني كفيتك فأنشأ يقول: وما خير مال ليس نافع أهله وليس لشيخ الحي في أمره أمر وقال المعلوط القريعي: أبا هانئ لا تسأل الناس والتمس بكفيك ستر الله فالله واسع فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا إذا قلت: هاتوا أن يملوا فيمنعوا ثم رجع إلى أحاديث البخلاء وإلى طرف معانيهم وكلامهم.
قال ابن حسان: كان عندنا رجل مقل و كان له أخ مكثر وكان مفرط البخل شديد النفح فقال له يوماً أخوه: ويحك! أنا فقير معيل وأنت غني خفيف الظهر لا تعينني على الزمان و لا تواسيني ببعض مالك و لا تتفرج لي عن شيء! و الله ما رأيت قط ولا سمعت أنحل منك! قال: ويحك! ليس الأمر كما تظن ولا المال كما تحسب ولا أنا كما تقول في البخل ولا في اليسر والله لو ملكت ألف ألف درهم لوهبت لك خمسمائة ألف درهم.
يا هؤلاء فرجل يهب في ضربة واحدة خمسمائة الف درهم يقال له: بخيل! وأما صاحب الثريدة البلقاء فليس عجبي من بلقة ثريدته وسائر ما كان يظهر على خوانه كعجبي من شيء واحد وكيف ضبطه وحصره وقوي عليه مع كثرة أحاديثه وصنوف مذاهبه وذلك أني في كثرة ما جالسته وفي كثرة ما كان فيه يفنن من الأحاديث لم أره خبر أن رجلاً وهب لرجل درهماً واحداً! فقد كان يفنن في الحزم والعزم وفي الحلم والعلم وفي جميع المعاني إلا ذكر الجود فإني لم أسمع هذا الاسم منه قط: خرج هذا الباب من لسانه كما خرج من قلبه! ويؤكد ما قلت ما حدثني به طاهر الأسير فإنه قال: ومما يدل على أن الروم أبخل الأمم أنك لا تجد للجود في لغتهم اسماً.
يقول: إنما يسمى الناس ما يحتاجون إلى استعماله.
ومع الاستغناء يسقط التكلف.
وقد زعم ناس أن مما يدل على غش الفرس أنه ليس للنصيحة في لغتهم اسم واحد يجمع المعاني التي يقع عليها هذا الاسم.
وقول القائل: نصيحة ليس يراد به سلامة القلب فقد يكون أن يكون الرجل سليم الصدر ولم يحدث سبب من أجله يقصد إلى المشورة عليك بالذي هو أرد عليك - على حسب رأيه فيك - وجهاً لنفعك.
ففي لغتهم اسم للسلامة واسم لإرادة الخير وحسن المشورة وحملك بالرأي على الصواب.
فللنصيحة عندهم أسماء مختلفة إذا اجتمعت دلت على ما يدل عليه الاسم الواحد في لغة العرب.
فمن قضى عليهم بالغش من هذا الوجه فقد ظلم.
وحدثني إبراهيم بن عبد العزيز قال: تغديت مع راشد الأعور فأتونا بجام فيه بيان سبخي الذي يقال له الدراج فجعلت آخذ الواحدة فأقطع رأسها ثم أعزله ثم أشقها باثنين من قبل بطنها فآخذ شوكة الصلب والأضلاع فأعزلها وأرمي بما في بطنها وبطرف الذنب والجناح.
ثم أجمعها في لقمة واحدة وآكلها.
وكان راشد يأخذ البياحة فيقطعها قطعتين فيجعل قطعة في لقمة لا يلقي رأساً ولا ذنباً - فصبر لي على لقم عدة.
فلما بلغت المجهود منه قال: أي بني إذا أكلت الطعام فكل خيره بشره! قال: وكان يقول: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصبهان.
فأما الزنجي فإنه لا يتخير وأنا أتخير.
وأما الأصبهاني فإنه يقبض القبضة ولا يأكل من غيرها ولا ينظر إلى ما بين يديه حتى يفرغ من القبضة. وهذا عدل. والتخير قرفة وجور. لا جرم أن الذي يبقى من التمر لا ينتفع به العيال إذا كان قدام من يتخير.
وكان يقول: ليس من الأدب أن تجول يدك في الطبق وإنما هو تمر وما أصاب.
وزعم سري بن مكرم وهو ابن أخي موسى بن جناح قال: كان موسى يأمرنا ألا نأكل ما دام أحد منا مشغولاً بشرب الماء وطلبه.
فلما رآنا لا نطاوعه دعا ليلة بالماء ثم خط بإصبعه خطاً وأحاديثه في صدر هذا الكتاب.
وهذا منها.
وقال المكي لبعض من كان يتعشى ويفطر عند الباسياني: ويحكم! كيف تسيغون طعامه وأنتم تسمعونه يقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.
ثم ترونه لا يقرؤها إلا وأنتم على العشاء ولا يقرأ غير هذه الآية.
أنتم والله ضد الذي قال: ألبان إبل تعلة بن مسافر ما دام يملكها على حرام وطعام عمران بن أوفى مثله ما دام يسلك في البطون طعام إن الذين يسوغ في أعناقهم زاد يمن عليهم للئام قال: فمتى تعجب أعجب من خمسين رجلاً من العرب فيهم أبو رافع الكلابي وهو شاعر ندى يفطرون عند أبي عثمان الأعور.
فإفطاري من طعام نصراني أشد من إفطاري من طعام مسلم يقرأ القرآن ويقول الحق.
وحدثني أبو المنجوف السدوسي قال: كنت مع أبي ومعنا شيخ من موالي الحي.
فمررنا بناطور على نهر الأبلة ونحن تعبون.
فجلسنا إليه.
فلم يلبث أن جاءنا بطبق عليه رطب سكر وجيسوان أسود فوضعه بين أيدينا.
فأكل الشيخ الذي كان معنا.
فلما رأيت أبي لا يأكل لم آكل وبي إلى ذلك حاجة.
فأقبل الناطور على أبي فقال: لم لا تأكل قال: والله إني لأشتهيه.
ولكن لا أظن صاحب الأرض أباح لك طعام الناس من الغريب.
فلو جئتنا بشيء من السهريز والبرني لأكلنا.
فقال مولانا وهو شيخ كبير السن: ولكني أنا لم أنظر في شيء من هذا قط.
قال المكي: دخل إسماعيل بن غزوان إلى بعض المساجد يصلي.
فوجد الصف تاماً فلم يستطع أن يقوم وحده.
فجذب ثوب شيخ في الصف ليتأخر فيقوم معه.
فلما تأخر الشيخ ورأى الفرج تقدم فقام في موضع الشيخ وترك الشيخ قائماً خلفه ينظر في قفاه ويدعو الله عليه.
وكان ثمامة يحتشم أن يقعد على خوانه من لا يأنس به.
ومن رأيه أن يأكل بعض غلمانه معه.
فحبس قاسم التمار يوماً على غدائه بعض من يحتشمه.
فاحتمل ذلك ثمامة في نفسه.
ثم عاد بعد ذلك إلى مثلها ففعل ذلك مراراً حتى ضج ثمامة واستفرغ صبره.
فأقبل عليه فقال: ما يدعوك إلى هذا لو أردتم لكان لساني مطلقاً وكان رسولي يؤدي عني.
فلم تحبس على طعامي من لا آنس به قال: إنما أريد أن اسخيك فأنفي عنك التبخيل وسوء الظن.
فلما أن كان بعد ذلك أراد بعضهم الانصراف قال له قاسم: أين تريد قال: قد تحرك بطني فأريد المنزل.
قال: فلم لا تتوضأ هاهنا فإن الكنيف خال نظيف والغلام فارغ نشيط وليس من أبي معن حشمة ومنزله منزل إخوانه! فدخل الرجل فتوضأ.
فلما كان بعد أيام حبس آخر.
فلما كان بعد ذلك حبس آخر! فاغتاظ ثمامة وبلغ في الغيظ مبلغاً لم يكن على مثله قط.
ثم قال: هذا يحبسهم على غدائي لأن يسخيني بحبسهم على أن يخرءوا عندي! لمه لأن من لم يخرأ الناس عنده فهو بخيل على الطعام! وقد سمعتهم يقولون: فلان يكره أن يؤكل عنده.
ولم أسمع أحداً قط قال: فلان يكره أن يخرأ عنده! وكان قاسم شديد الأكل شديد الخبط قذر المؤاكلة.
وكان أسخى الناس على طعام غيره وأبخل الناس على طعام نفسه.
وكان يعمل عمل رجل لم يسمع بالحشمة ولا بالتجمل قط.
فكان لا يرضى بسوء أدبه على طعام ثمامة حتى يجر معه ابنه إبراهيم.
وكان بينه وبين إبراهيم ابنه في القذر ما بينه وبين جميع العالمين! فكانا إذا تقابلا على خوان ثمامة لم يكن لأحد على أيمانهما وشمائلهما حظ في الطيبات! فأتوه يوماً بقصعة ضخمة فيها ثريدة كهيئة الصومعة مكللة بإكليل من عراق بأكثر ما يكون من العراق.
فأخذ قاسم الذي يستقبله ثم أخذ يمنة وأخذ ما بين يدي من كان بينه وبين ثمامة حتى لم يدع إلا عرقاً قدام ثمامة.
ثم مال على جانبه الأيسر فصنع مثل ذلك الصنيع.
وعارضه ابنه وحاكاه! فلما أن نظر ثمامة إلى الثريدة مكشوفة القناع مسلوبة عارية واللحم كله بين يديه وبين يدي ابنه إلا قطعة واحدة بين يديه تناولها فوضعها قدام إبراهيم ابنه ولم يدفعها.
واحتسب بها في الكرامة والبر.
فقال قاسم لما فرغ من غدائه: أما رأيتم إكرام ثمامة لابني وكيف خصه فلما حكى هذا لي قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشام على عيالك منه! فلما حكى هذا لي قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشأم على عيالك منه! هذا أحرجه الغيظ وهذا الغيظ لا يتركه حتى يتشفى منك.
فإن قدر لك على ذنب فقد والله هلكت.
وإن لم يقدر أقدره لك الغيظ.
وأبواب التجني كثيرة.
وليس أحد إلا وفيه ما إن شئت جعلته ذنباً.
فكيف وأنت ذنوب من قرنك إلى قدمك! وكان ثمامة يفطر أيام كان في أصحاب الفساطيط ناساً.
فكثروا عليه وأتوه بالرقاع والشفاعات.
وفي حشوة المتكلمين أخلاق قبيحة وفيهم على أهل الكلام وعلى أرباب الصناعات محنة عظيمة.
فلما رأى ثمامة ما قد دهمه أقبل عليهم وهم يتعشون فقال: إن الله عز وجل لا يستحيي من الحق.
كلكم واجب الحق.
ومن لم تجئنا شفاعته فأكرمه كمن تقدمت شفاعته.
كما أنا لو فكذلك أنتم إذا أعجزنا أو بدا لنا فليس بعضكم أحق بالحرمان من بعض أو بالحمل عليه أو بالاعتذار إليه من بعض.
ومتى قربتكم وفتحت بابي لكم وباعدت من هو أكثر منكم عدداً وأغلقت بابي دونهم لم يكن في إدخالي إياكم عذر لي ولا في منع الآخرين حجة.
فانصرفوا ولا تعودوا! قال أبو محمد العروضي: وقعت بين قوم عربدة فقام المغني يحجز بينهم وكان شيخاً معيلاً بخيلاً.
فمسك رجل بحلقه فعصره فصاح: معيشتي! معيشتي! فتبسم وتركه.
وحثني ابن كريمة قال: وهبوا للكناني المغني خابية فارغة.
فلما كان عند انصرافه وضعوها له على الباب.
ولم يكن عنده كراء حمالها.
وأدركه ما يدرك المغنين من التيه فلم يحملها.
فكان يركلها ركلة فتدحرج وتدور بمبلغ حمية الركلة.
ويقوم من ناحية كي لا يراه إنسان ويرى ما يصنع.
ثم يدنو منها ثم يركلها أخرى فتدحرج وتدور ويقف من ناحية.
فلم يزل يفعل ذلك إلى أن بلغ بها المنزل! قالوا: كان عبد النور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن قد استخفى بالبصرة في عبد القيس من أمير المؤمنين أبي جعفر وعماله.
وكان في غرفة قدامها جناح.
وكان لا يطلع رأسه منها.
فلما سكن الطلب شيئاً وثبت عنده حسن جوار القوم صار يجلس في الجناح يرضى بأن يسمع الصوت ولا يرى الشخص لما في ذلك من الأنس عند طول الوحشة.
فلما طالت به الأيام ومرت أيام السلامة جعل في الجناح خرقاً بقدر عينه.
فلما طالت الأيام صار ينظر من شق باب كان مسموراً.
ثم ما زال يفتحه الأول فالأول إلى أن صار يخرج رأسه ويبدي وجهه.
فلما لم ير شيئاً يريبه قعد في الدهليز.
فلما زاد في الأنس جلس على باب الدار! ثم صلى معهم في مصلاهم ودخل.
ثم صلى بعد ذلك وجلس.
والقوم عرب.
وكانوا يفيضون في الحديث ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل ومن الخبر الأيام والمقامات.
وهو في ذلك ساكت إذا أقبل عليه ذات يوم فتى منهم خرج عن أدبهم وأغفل بعض ما راضوه به من سيرتهم فقال له: يا شيخ إنا قوم نخوض في بعض ضروب فربما تكلمنا بالمثلبة وأنشدنا الهجاء.
فلوا أعلمتنا ممن أنت تجنبنا كل ما يسوءك.
ولو اجتنبنا أشعار الهجاء كلها وأخبار المثلب بأسرها لم نأمن أن يكون ثناؤنا ومديحنا لبعض العرب مما يسوءك.
فلو عرفتنا نسبك كفيناك سماع ما يسوءك من هجاء قومك ومن مديح عدوك.
فلطمه شيخ منهم وقال: لا أم لك! محنة كمحنة الخوارج وتنقير كتنقير العيابين ولم لا تدع ما يريبك إلى مالا يريبك فتسكت إلا عما توقن بأنه يسره.
قال: وقال عبد النور: ثم إن موضعي نبا بي لبعض الأمر.
فتحولت إلى شق بني تميم فنزلت برجل فأخذته بالثقة وأكمنت نفسي إلى أن أعرف سبيل القوم.
وكان للرجل كنيف إلى جانب داره يشرع في طريق لا ينفذ.
إلا أن من مر في ذلك الشارع رأى مسقط الغائط من خلاء ذلك الجناح.
وكان صاحب الدار ضيق العيش فاتسع بنزولي عليه.
فكان القوم إذا مروا به ينظرون إلى موضع الزبل والغائط فلا يذهب قلبي إلى شيء مما كانوا يذهبون إليه.
فبينا أنا جالس ذات يوم إذا أنا بأصوات ملتفة على الباب وإذا صاحبي ينتفي ويعتذر وإذا الجيران قد اجتمعوا إليه وقالوا: ما هذا الثلط الذي يسقط من جناحك بعد أن كنا لا نرى إلا شيئاً كالبعر من يبس الكعك وهذا ثلط يعبر عن أكل غض! ولولا أنك انتجعت على بعض من تستر وتواري لأظهرته.
وقد قال الأول: الستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر ولولا أن هذا طلبة السلطان لما توارى.
فلسنا نأمن من أن يجر على الحي بلية.
ولست تبالي - إذا حسنت حالك في عاجل أيامك - إلام يفضي بك الحال وما تلقى عشيرتك.
فإما أن تخرجه إلينا وإما أن تخرجه عنا.
قال عبد النور: فقلت: هذه والله القيافة ولا قيافة بني مدلج! إنا لله! خرجت من الجنة إلى النار! وقلت: هذا وعيد. وقد اعذر من انذر.
فلم أظن أن اللؤم يبلغ ما رأيت من هؤلاء ولا ظننت أن الكرم يبلغ ما رأيت من أولئك! شهدت الأصمعي يوماً وأقبل على جلسائه يسألهم عن عيشهم وعما يأكلون ويشربون.
فأقبل على الذي عن يمينه فقال: أبا فلان ما أدمك قال: اللحم.
قال: أكل يوم لحم قال: نعم.
قال: وفيه الصفراء والبيضاء والحمراء والكدراء والحامضة والحلوة والمرة قال: نعم.
قال: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه يضرب على هذا.
وكان يقول: مد من اللحم كمد من الخمر.
ثم سأل الذي يليه قال: أبا فلان ما أدمك قال: الآدام الكثير والألوان الطيبة.
قال: أفي آدامك سمن قال: نعم.
قال فتجمع السمن والسمين على مائدة قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب رحمة الله عله ورضوانه يضرب على هذا.
وكان إذا وجد القدور المختلفة الطعوم كدرها في قدر واحدة وقال: إن العرب لو أكلت هذا لقتل بعضها بعضاً.
ثم يقبل على الآخر فيقول: أبا فلان ما أدمك قال: اللحم السمين والجداء الرضع.
قال: فتأكله بالحوارى قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
أو ما سمعته يقول: أتروني لا أعرف الطعام الطيب لباب البر بصغار المعزى.
ألا تراه كيف ينتفي من أكله وينتحل معرفته ثم يقبل على الذي يليه فيقول: أبا فلان ما أدمك فيقول: أكثر ما نأكل لحوم الجزور ونتخذ منها هذه القلايا ونجعل بعضها شواء.
قال: أفتأكل من أكبادها وأسمنتها وتتخذ لك الصباغ قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
أو ما سمعته يقول: أتروني لا أقدر أتخذ أكباداً وأفلاذاً وصلائق وصناباً ألا تراه كيف ينكر أكله ويستحسن معرفته ثم يقول للذي يليه: أبا فلان ما أدمك فيقول: الشبارقات والأخبصة والفالوذجات.
قال: طعام العجم وعيش كسرى ولباب البر بلعاب النحل بخالص السمن - حتى أتى على آخرهم.
كل ذلك يقول: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
فلما انقضى كلامه أقبل عليه بعضهم فقال: يا أبا سعيد ما أدمك قال: يوماً لبن ويوماً زيت ويوماً سمن ويوماً تمر ويوماً جبن ويوماً قفار ويوماً لحم.
عيش آل الخطاب.
ثم قال: قال أبو الأشهب: كان الحسن يشتري لأهله كل يوم بنصف درهم لحماً.
فإن غلا فبدرهم.
فلما حبس عطاؤه كانت مرقته بشحم.
ونبئت عن رجل من قريش أنه كان يقول: من لم يحسن يمنع لم يحسن يعطى وأنه قال لابنه: أي بني إنك إن أعطيت في غير موضع الإعطاء أوشك أن تستعطي الناس فلا تعطي.
ثم أقبل علينا فقال: هل علمتم أن اليأس أقل من القناعة وأعز.
إن الطمع لا يزال طمعاً وصاحب الطمع لا ينتظر الأسباب ولا يعرف الطمع الكاذب من الصادق.
والعيال عيالان: شهوة مفسدة وضرس طحون.
وأكل الشهوة أثقل من أكل الضرس.
وقد زعموا أن العيال سوس المال وأنه لا مال لذي عيال.
وأنا أقول: إن الشهوة تبلغ ما لا يبلغ السوس وتأتي على ما يقصر دونه العيال.
وقد قال الحسن: ما عال أحد قط عن قصد.
وقيل ليشخ من أهل البصرة: مالك لا ينمي لك مال قال: " لأني اتخذت العيال قبل المال واتخذ الناس المال قبل العيال ".
وقد رأيت من تقدم عياله ماله فجبره الإصلاح ورفده الاقتصاد وأعانه حسن التدبير.
وقال: أر لشهواني تدبيراً ولا لشره صبراً.
وقال إياس بن معاوية: إن الرجل يكون عليه ألف فينفق ألفاً فيصلح فتصلح له الغلة.
ويكون عليه ألفان فينفق ألفين فيصلح فتصلح له الغلة.
ويكون عليه ألفان فينفق ثلاثة آلاف فيتبع العقار في فضل النفقة.
وذكر الحديث عن أبي لينة قال: كنت أرى زياداً وهو أمير يمر بنا على بغلة في عنقها حبل من ليف مدرج على عنقها.
وكان سلم بن قتيبة يركب بغلة وحده ومعه أربعة آلاف رابطة.
ورآه الفضل بن عيسى على حمار وهو أمير فقال: بذلة نبي وقعود جبار! ولو شاء أبو سيارة أن يدفع بالعرب على جمل مهري أو فرس عتيق لفعل.
ولكنه أراد هدى الصالحين.
وحمل عمر على برذون فهملج تحته.
فنزل عنه.
فقال لأصحابه: جنبوني هذا الشيطان.
ثم قال لأصحابه: لا تطلبوا العز بغير ما أعزكم الله به.
قد كنت أعجب من بعض السلف حيث قال: ما أعرف شيئاً مما كان الناس عليه إلا الأذان.
وأنا أقول ذلك.
ولم يزل الناس في هبوط ما ترفعوا بالإسراف وما رفعوا البنيان للمطاولة.
وإن من أعجب ما رأيت في هذا الزمان أو سمعت مفاخرة مويس بن عمران لأبي عبيد الله بن سليمان في أيهما كان أسبق إلى ركوب البراذين! وما للتاجر وللبرذون وما ركوب التاجر للبراذين إلا كركوب العرب للبقر! ولو كانوا إذا جلسوا في الخيوش واتخذوا الحمامات في الدور وأقاموا وظائف الثلج والريحان واتخذوا القيان والخصيان استرد الناس ودائعهم واسترجعت القضاة أموال الأيتام والحشرية منهم لعادوا إلى دينهم وعيشهم واقتصادهم.
وإذا رآهم أصحاب الغلات وأهل الشرف والبيوتات أنفوا أن يكونوا دونهم في البزة والهيئة.
فهلكوا وأهلكوا.
زعم أبو يعقوب الخريمي أن جعفر بن يحيى أراد يوماً حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي وأنه دفع إلى خادم له كيساً فيه ألف دينار وقال له: سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي.
وسيحدثني ويضحكني.
فإذا رأيتني قد ضحكت فضع الكيس بين يديه.
فلما دخل فرأى حباً مقطوع الرأس وجرة مكسورة العروة وقصعة مشعبة وجفنة أعشاراً ورآه على مصلى بال وعليه بركان أجرد - غمز غلامه بعينه ألا يضع الكيس بين يديه ولا يدفع إليه شيئاً.
فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه فما تبسم فقال له إنسان: ما أدري من أي أمر يك أعجب أمن صبرك على الضحك وقد أورد عليك ما لا يصبر على مثله أم من تركك إعطاءه وقد كنت عزمت على إعطائه وهذا خلاف ما أعرفك به! قال: ويلك! من استرعى الذئب فقد ظلم. ومن زرع سبخة حصد الفقر.
إني والله لو علمت أنه يكتم المعروف بالفعل لما ارتفقت بنشره له باللسان.
وأين يقع مديح اللسان من مديح آثار الغنى على الإنسان فاللسان قد يكذب والحال لا تكذب.
لله در نصيب حيث يقول: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح له من شعر زهير لآل سنان بن أبي حارثة لأن الشاعر يكذب ويصدق وبنيان لا يكذب مرة ويصدق مرة.
فلست بعائد إلى هذا بمعروف أبداً.
كان الأصمعي يتعوذ بالله من الاستقراض والاستقراض.
فأنعم الله عليه حتى صار هو المستقرض منه والمستفرض ما عنده.
فاتفق أن أتاه في يوم واحد رجلان.
وكان أحدهما يطلب الفرض والآخر يطلب القرض.
هجما عليه معاً فأثقله ذلك وملأ صدره! ثم أقبل على صاحب السلف فقال: " تتبدل الأفعال بتبدل الحال.
ولكل زمان تدبير ولكل شيء مقدار والله في كل يوم في شأن.
كان الفقيه يمر باللقطة فيتجاوزها ولا يتناولها كي يمتحن بحفظها سواه إذ كان جل الناس في ذلك الدهر يريدون الأمانة ويحوطون اللقطة.
فلما تبدلوا وفسدوا وجب على الفقيه إحرازها والحفظ لها وأن يصبر على ما نابه من المحنة واختبر به من الكلفة ".
" وقد بلغني أن رجلاً أتي صديقاً له يستقرض منه مالاً فتركه بالباب ثم خرج إليه مؤتزراً.
فقال له: مالك قال: جئت للقتال والطام والخصومة والصخب.
قال: ولم قال: لأنك في أخذ مالي بين حالين: إما أن تذهب به.
وإما أن تمطلني به.
فلو أخذته على طريق البر والصلة لاعتددت عليك بحق ولوجب عليك به شكر.
وإذا أخذته من طريق السلف كانت العادة في الديون والسيرة في الأسلاف الرد أو التقاضي.
وإذا تقاضيتك أغضبتك وإذا أغضبتك أسمعتني ما أكره فتجمع على المطل وسوء اللفظ والوحشة وإفساد اليد في الأسلاف وأنت أظلم فأغضب كما غضبت.
فإذا نقلتني إلى حالك فعلت فعلك وصرت أنا وأنت كما قال العربي: أنا تئق وصاحبي مئق - فما ظنك بمئق من الغيظ مملوء من الغضب لاقى متأقاً من الموق مملوءاً من الكفران - ولكني أدخل إلى المنزل فأخرج إليك مؤتزراً فأعجل لك اليوم ما أخرته إلى غد.
وقد علمت أن ضرب الموعظة دون ضرب الحقد والسخيمة فتربح صرف ما بين الألمين وفضل ما بين الشتمين ".
" وبعد فأنا أضن بصداقتي لك وأشح على نصيبي منك من أن أعرضه للفساد وأن أعينك على القطيعة.
فلا تلمني على أن كنت عندي واحداً من أهل عصرك.
فإن كنت عند نفسك فوقهم وبعيداً من مذهبهم فلا تكلف الناس علم الغيب فتظلمهم ".
ثم قال: " وما زالت العارية مؤداة والوديعة محفوظة.
فلما قالوا: أحق الخيل بالركض المعار بعد أم كان يقال: أحق الخيل بالصون المعار وبعد المؤمنين قيل لبعضهم: ارفق به قال: إنه عارية وقال الآخر: فاقتل! - فسدت العارية واستد هذا الباب.
ولما قالوا: واخفض جناحك إن مشيت تخشعاً حتى تصيب وديعة ليتيم " " وحين أكلت الأمانات الأمناء والأوصياء ورتع فيها المعدلون والصارفون وجب حفظها ودفنها وكان أكل الأرض لها خيراً من أكل الخئون الفاجر واللئيم الغادر.
وهذا مع قول أكثم بن صيفي في ذلك الدهر: لو سئلت العارية: أين تذهبين قالت: أكسب أهلي ذماً ".
" وأنا اليوم أنهي عن العارية والوديعة وعن القرض والفرض وأكره أن يخالف قولي فعلي.
أما القرض فما أنبأتك وأما الفرض فليس يسعه إلا بيت المال.
ولو وهبت لك درهماً واحداً لفتحت على مالي باباً لا تسده الجبال والرمال ولو استطعت أن أجعل دونه ردماً كردم ياجوج ومأجوج ".
" إن الناس فاغرة أفواههم نحوه من عنده دراهم فليس يمنعهم من النهس إلا اليأس.
وإن طعموا لم تبق راغية ولا ثاغية ولا سبد ولا لبد ولا صامت ولا ناطق إلا ابتلعوه والتهموه! أتدري ما تريد بشيخك إنما تريد أن تفقره.
فإذا أفقرته فقد قتلته.
وقد تعلم ما جاء في قتل النفس المؤمنة "! فلم أشبه قول الأصمعي لهذا الرجل حين قال: " أنا أضن بك وأشح على نصيبي منك من أن أعرضه للفساد " إلا بقول ثمامة حين قال لابن سافري: " بالنظر مني أقول لك والشفقة مني أسبك ".
وذلك أنه ندم فرأى أن هذا القول يجعل ذلك منه يداً ونعمة.
وشهدت ثمامة وقد أتاه رجل قال: لي إليك حاجة فقال ثمامة: ولي إليك أيضاً حاجة.
قال: وما حاجتك قال: لست أذكرها لك حتى تضمن لي قضاءها.
قال: نعم.
قال: فحاجتي ألا تسألني هذه الحاجة.
قال: إنك لا تدري ما هي قال: بلى قد دريت.
قال: فما هي قال: هي حاجة.
وليس يكون الشيء حاجة إلا وهي تخرج إلى شيء من الكلفة.
قال: فقد رجعت عما أعطيتك.
قال: لكني لا أرد ما أخذت.
فأقبل عليه آخر فقال: لي حاجة إلى منصور بن النعمان.
قال: قل.
لي حاجة إلى ثمامة بن أشرس لأني أنا الذي أقضي لك الحاجة ومنصور يقضيها لي.
فالحاجة أنا أقضيها لك وغيري يقضيها لي.
ثم قال: فأنا لا أتكلم في الولايات ولا أتكلم في الدراهم لأن الدراهم من قلوب الناس ولأن الحوائج تنقض.
فمن سألته اليوم أن يعطيك سألني غداً أن أعطي غيرك.
فتعجيلي تلك العطية لك أروح لي.
ليس عندي دراهم ولو كان عندي دراهم لكانت نوائبي القائمة الساعة تستغرقها.
ولكن أؤنب لكم من شئتم.
علي لكم من التأنيب كل ما تريدون! قلت له فإذا أتيت رجلاً في أمر لم تتقدم فيه بمسألة كيف يكون جوابه لك فضحك حتى وجاء مرة أبو همام المسوط يكلمه في مرمة داره التي تطوع ببنائها في رباط عبادان فقال: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً.
قد كنت عزمت على هدمها حين بلغني أن الجبرية قد نزلتها.
قال: سبحان الله! تهدم مكرمة وداراً قد وقفتها للسبيل قال: فتعجب من ذا قد أردت أن أهدم المسجد الذي كنت بنيته ليزيد بن هاشم حين ترك أن يبنيه في الشارع وبناه في الرائغ وحين بلغني أنه يخلط في الكلام ويعين البشرية على المعتزلة.
فلو أراده أبو همام وجد من ثمامة مربداً جميع مساحة الأرض! وكان حين يسوي لك اللفظ لا ينظر في صلاح المعاني من فسادها.
وتمشى رجل إلى الغاضري قال: إن صديقك القادمي قد قطع عليه الطريق.
قال: فأي شيء تريد قال: أن تخلف عليه.
قال: فليس عليه قطع الطريق بل على قطع! وأتى ابن سكاب الصيرفي صديق له يستلف منه مالاً فقال: لو شئت أن أقول لقلت وأن أعتل اعتللت وأن أستعير بعض كلام من يستلف منه إخوانه فعلت.
وليس أرى شيئاً خيراً من التصحيح وقشر العصا وليس أفعل.
فإن التمست لي عذراً فهو أروح لقلبك وإن لم تفعل فهو شر لك.
وضاق الفيض بن يزيد ضيقاً شديداً فقال: والله ما عندنا من شيء نعول عليه وقد بلغ السكين العظم.
والبيع لا يكون إلا مع طول المدة.
والرأي أن ننزل هذه النائبة بمحمد بن عباد فإنه يعرف الحال وصحة المعاملة وحسن القضاء وما لنا من السبب المنتظر فلو كتبت إليه كتاباً لسره ذلك ولسد منا هذه الخلة القائمة الساعة.
فتناول القلم والقرطاس ليكتب إليه كتاب الواثق المدل لا يشك أنه سيتلقى حاجته بمثل ما كان هو المتلقي لها منه - ومضى بعض من كان في المجلس إلى محمد بن عباد ليبشره بسرعة ورود حاجة الفيض إليه.
فأتاه أمر لا يقوم به.
فأمر بالكتابة إليه ليشغله بحاجته إليه عن حاجته إليه.
فكتب إليه: مالي يضعف والدخل قليل والعيال كثير والسعر غال.
وأرزاقنا من الديوان قد احتبست.
وقد تفتحت علينا من أبواب النوائب في هذه الأيام ما لم يكن لنا في حساب.
فإن رأيت أن تبعث إلي بما أمكنك فعجل به فإن بنا إليه أعظم الحاجة فورد الكتاب على الفيض قبل نفوذ كتابه إليه.
فلما قرأه استرجع وكتب إليه: يا أخي تضاعفت على المصيبة حتى جمعت خلة عيالك إلى خلة عيالي.
وقد كنت على الاحتيال لهم.
وسأضطرب في وجوه الحيل غير هذا الاضطراب.
وسأتحرك في بيع ما عندي ولو ببعض الطرح.
فلما رجع الكتاب على ابن عباد سكن وألقي صاحبه في أشد الحركة وأتعب التعب.
وكان رجل من أبناء الحربية له سخاء وأريحية.
وكان يكثر استزارة ابن عباد ويتلف عليه من الأموال من طريق الرغبة في الأدباء وفي مشايخ الظرفاء.
وكان يظن بكرمه أن زيارته ابن عباد في منزله زيادة في المؤانسة.
وقد كان بلغه إمساكه ولكنه لم يظن أنه لا حيلة في سببه.
فأتاه يوماً متطرئاً قال: جئتك من غير دعاء.
وقد رضيت بما حضر.
قال: فليس يحضر شيء.
وقولك: بما حضر لا بد من أن يقع على شيء! قال: فقطعة مالح قال: وقطعه مالح ليس هي شيء قال بلى فنحن نشرب على الريق قال: لو كان عندنا نبيذ كنا في عرس.
قال: فأنا أبعث إلى نبيذ.
قال: فإذا صرت إلى تحويل النبيذ فحول أيضاً ما يصلح للنبيذ! قال: ليس يمنعني من ذلك ومن إحضار النقل والريحان إلا أن أحتسب لك هذه الزورة بدعوة.
وليس يجوز ذلك إلا بأن يكون لك فيها أثر.
فقال محمد: فقد انفتح لي باب لكم فيه صلاح وليس على فيه فساد: في هذه النخلة زوج ورشان.
ولهما فرخان مدركان.
فإن نحن وجدنا إنساناً يصعدها - فإنها سحيقة منجردة - ولم يطيرا - فإنهما قد صارا ناهضين - جعلنا الواحد طباهجة والآخر جردناجاً فإنه يوم فطلبوا في الجيران إنساناً يصعد تلك النخلة فلم يقدروا عليه.
فدلوهم على أكار لبعض أهل الحربية.
فما زال الرسول يطلبه حتى وقع عليه.
فلما جاء ونظر إلى النخلة قال: هذه لا تصعد ولا يرتقي عليها إلا بالتبليا والبربند.
فكيف أرومها أنا بلا سبب فسألوه أن يلتمس لهم ذلك.
فذهب فغبر ملياً.
ثم أتاهم به.
فلما صار في أعلاها طار أحدهما وأنزل الآخر.
فكان هو الطباهج والجردناج وهو الغداء وهو العشاء! وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له يساويه في الأدب ويرتفع عليه في الحال - وكان كثير المال كثير الصامت - يستسلف منه بعض ما يرتفق به إلى أن يأتيه بعض ما يؤمل.
فكتب إليه صديقه هذا يعتذر ويقول: إن المال مكذوب له وعليه.
والناس يضيفون إلى الناس في هذا الباب ما ليس عندهم.
وأنا اليوم مضيق وليست الحال كما نحب.
وأحق من عذر الصديق العاقل.
فلما ورد كتابه على ابن سبابة كتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً.
قال عمرو الجاحظ: احتجنا عند التطويل وحين صار طويلاً كبيراً إلى أن يكون قد دخل فيه من علم العرب وطعامهم وما يتمادحون به وما يتهاجون به شيء وإن قل ليكون الكتاب قد انتظم جمل هذا الباب.
ولولا أن يخرج من مقدار شهوة الناس لكان الخبر عن العرب والأعراب أكثر من جميع هذا الكتاب.
الطعام ضروب.
والدعوة اسم جامع.
وكذلك الزلة.
ثم منه العرس والخرس والإعذار والوكيرة والنقيعة.
والمأدبة اسم لكل طعام دعيت إليه الجماعات.
قال الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر وجاء في الحديث: القرآن مأدبة الله.
وقد زعم ناس أن العرس هو الوليمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: أولم ولو بشاة.
وكان ابن عوف والأصمعي من بعده يذمان عمرو بن عبيد ويقولون: لا يجيب الولائم يجعلان طعام الإملاك والأعراس والسبوع والختان وليمة.
والعرس معروف.
إلا أن المفضل الضبي زعم أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم: لا عطر بعد عروس.
وكان الأصمعي يجعل العروس رجلاً بعينه كان بنى على أهله فلم تتعطر له.
فسمى بعد ذلك كل بان على أهله بذلك الاسم.
ومثل هذا لا يثبت إلا بأن يستفيض في الشعر ويظهر في الخبر.
وأما الخرس فالطعام الذي يتخذ صبيحة الولادة للرجال والنساء.
وزعموا أن أصل ذلك مأخوذ من الخرسة.
والخرسة طعام النفساء.
قالت جارية ولدت حين لم يكن لها من يخدمها ويمارس لها ما يمارس للنفساء: تخرسي لا مخرسة لك.
وفي الخرسة يقول مساور الوراق: إذا أسدية ولدت غلاماً فبشرها بلؤم في الغلام تخرسها نساء بني دبير بأخبث ما يجدن من الطعام وقال ابن قميئة: شركم حاضر وخيركم د ر خروس من الأرانب بكر فالخروس هي صاحبة الخرسة.
والأعذار طعام الختان.
يقال: صبي معذور وصبي معذر جميعاً.
وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد تقاربهم في الأسنان: كنا إعذار عام واحد.
وقال النابغة: فنكحن أبكاراً وهن بإمة أعجلنهن مظنة الإعذار فزعموا أنهم سموا طعام الإعذار بالإعذار للملابسة والمجاورة.
كان الأصمعي يقول: قد كان للعرب كلام على معان.
فإذا ابتدلت تلك المعاني لم تتكلم بذلك الكلام.
فمن ذلك قول الناس اليوم: ساق إليها صداقها.
وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلا وغنماً.
وفي قياس قول الأصمعي أن أصحاب التمر الذين كان التمر دياتهم ومهورهم كانوا لا يقولون: ساق فلان صداقه.
قال: ومن ذلك قول الناس اليوم: " قد بنى فلان البارحة على أهله ".
وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبته وخيمته.
وذلك هو بناؤه.
ولذلك قال الأول: لو نزل الغيث أبنين امرأً كانت له قبة سحق بجاد وكان الأصمعي يعد من هذا أشياء ليس لذكرها هاهنا وجه.
ومن طعامهم الوكيرة.
وهو طعام البناء.
كان الرجل يطعم من يبني له.
وإذا فرغ من بنائه تبرك بإطعام أصحابه ودعائهم.
ولذلك قال قائلهم: خير طعام شهد العشيرة العرس والإعذار والوكيرة ويسمون ما ينحرون من الإبل والجزر من عرض المغنم النقيعة.
قال الشاعر: والعقيقة دعوة على لحم الكبش الذي يعق عن الصبي.
والعقيقة اسم للشعر نفسه.
والأشعار هي العقائق.
وقولهم: عقوا عنه أي احلقوا عقيقته.
ويقولون: عق عنه وعق عليه.
فسمى الكبش - لقرب الجوار وسبب المتلبس - عقيقة.
ثم سموا ذلك الطعام باسم الكبش.
وكان الأصمعي يقول: لا يقولن أحدكم: أكلت ملة بل يقول: أكلت خبزة وإنما الملة موضع الخبزة.
وكذلك يقول في الراوية والمزادة يقول: الراوية هو الجمل.
وزعموا أنهم اشتقوا الراوية للشعر من ذلك.
فأما الدعاء إلى هذه الأصناف فمنه المذموم ومنه الممدوح.
فالمذموم النقرى والممدوح الجفلى.
وذلك أن صاحب المأدبة وولى الدعوة إذا جاء رسوله والقوم في أحويتهم وأنديتهم فقالوا: أجيبوا إلى طعام فلان.
فجعلهم جفلة واحدة وهي الجفالة.
فذلك هو المحمود.
وإذا انتقر فقال: قم أنت يا فلان وقم أنت يا فلان فدعا بعضاً وترك بعضاً فقد انتقر.
قال الهذلي: وليلة يصطلى بالفرث جازرها يخص بالنقرى المثرين داعيها يقول: لا يدعوا فيها أصحاب الثروة وأهل المكافأة.
وهذا قبيح.
وقال في ذلك بعض ظرفائنا: لو كان مكوكان في كفه من خردل ما سقطت واحدة وقال طرفة بن العبد: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر ولما غزا بسطام بن قيس الشيباني مالك بن المنتفق الضبي وأثبته عاصم بن خليفة الضبي شد عليه فطعنه وهو يقول: وهذا وفي الجفلة لا يدعوني ويروى: في الحفلة لا يدعوني.
كأنه حقد عليه حين كان يدعو أهل المجلس ويدعه.
والطعام المذموم عندهم ضربان: أحدهما طعام المجاوع والحطمات والضرائك والسباريت واللئام والجبناء والفقراء والضعفاء.
من ذلك: الفث والدعاع والهبيد والقرامة والقرة والعسوم ومنقع البرم والقصيد والقد والحيات.
فأما الفظ فإنه وإن كان شراباً كريهاً فليس يدخل في هذا الباب.
وكذلك المجدوح.
فأما الفظ فإنه عصارة الفرث إذا أصابهم العطش في المفارز.
وأما المجدوح فإنهم إذا بلغ العطش منهم المجهود نحروا الإبل وتلقوا ألبابها بالجفان كي لا يضيع من دمائها شيء.
فإذا برد الدم ضربوه بأيديهم وجدحوه بالعيدان جدحاً حتى ينقطع فينعزل ماؤه من ثقله كما يخلص الزبد وقال الشاعر: لم تأكل الفث والدعاع ولم تجن هبيداً بجنبة مهتبد وقال أمية بن أبي الصلت: ولا يتنازعون عنان شرك ولا أقوات أهلهم العسوم ولا قرن يقزز من طعام ولا نصب ولا مولى عديم وقال معاوية بن أبي ربيعة الجرمي في الفترة وهو يعير بني أسد وناسا من هوازن وهما ابنا القملية: ألم تر جرماً أمجدت وأبوكم مع الشعر في قص الملبد شارع إذا قرة جاءت يقول: أصيب بها سوى القمل إني من هوازن ضارع والقرامة نحاتة القرون والأظلاف والمناسم وبرادتها.
والعلهز القردان ترض وتعجن بالدم.
والقرة الدقيق المختلط بالشعر.
كان الرجل منهم لا يحلق رأسه إلا وعلى رأسه قبضة من دقيق للأكل.
فهو معيب.
وفي أكل الحيات بقوله ابن مناذر: فإياكم والريف لا يقربنه فإن لديه الحيف والموت قاضيا وقال القطامي في أكلهم القد: تضيفت في طل وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعد ما تلفعت الظلماء من كل جانب فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جائب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت: معشر من محارب ومن المشتوين القد في كل شتوة وإن كان ريف الناس ليس بناضب وقال الراعي: بكى منذر من أن يضاف وطارق يشد من الجوع والإزار على الحشا إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها وقد تكرم الأضياف والقد يشتوي وقد يضيقون في شراب غير المجدوح والفظ في المغازي والأسفار فيمدحون من آثر صاحبه ولا يذمون من أخذ حقه منه.
وهو ماء المصافنة.
والمصافنة مقاسمة هذا الماء بعينه.
وذلك أن الماء إذا نقص عن الري اقتسموه بالسواء.
ولم يكن للرئيس ولا لصاحب المرباع والصفي وفضول المقاسم فضل على أخس القوم.
وهذا خلق عام ومكرمة عامة في الرؤساء.
قال الفرزدق: على ساعة لو أن في القوم حاتماً على جوده ضننت به نفس حاتم وبذلك المذهب من الأثرة مدح الشاعر كعب بن يمامة حين آثر بنصيبه رفيقه النمري فقال: ما كان من سوقة أسقى على ظمإ خمراً بماء إذا ناجودها بردا من ابن مامة كعب ثم عي به زو المنية إلا حرة وقدى أو في على الماء كعب ثم قيل له: رد كعب إنك وراد فما وردا وفي المصافنة يقول الأسدي: كأن أطيطا يا بنة القوم لم ينخ قلائص يحكيها الحني المنقح ولم يسق قوماً فارسي على الحصى صباب الأداوي والمطيات جنح ويزعمون أن الحصاة التي إن غمرها الماء في الإناء كانت نصيب احدهم تسمى المقلة.
وهذا الحرف سمعته من البغداديين.
ولم أسمعه من أصحابنا.
وقد برئت إليك منه.
وقال ابن جحوش في المصافنة: ولما تعاورنا الإداوة أجهشت إلى الماء نفس العنبري الجراضم وآثرته لما رأيت الذي به على النفس أخشى لاحقات الملاوم وقد يصيب القوم في باديتهم ومواضعهم من الجهد ما لم يسمع به في أمة من الأمم ولا في ناحية من النواحي.
وإن أحدهم ليجوع حتى يشد على بطنه الحجارة وحتى يعتصم بشده معاقد الإزار وينزع عمامته من رأسه فيشد بها بطنه وإنما عمامته تاجه.
والأعرابي يجد في رأسه من البرد إذا كان حاسراً ما لا يجده أحد لطول ملازمته العمامة ولكثرة طيها وتضاعف أثنائها.
ولربما اعتم بعمامتين.
ولربما كانت على قلنسوة حدرية.
وقال مصعب بن عمير الليثي: سيروا فقد جن الظلام عليكم فباست امرئ يرجو القرى عند عاصم دفعنا إليه وهو كالذيخ خاطيا نشد على أكبادنا بالعمائم وقال الراعي في ذلك: يشب لركب منهم من ورائهم فكلهم أمسى إلى ضوئها سرى إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها وقد تكرم الأضياف والقد يشتوى فلما أناخوا واشتكينا إليهم بكوا وكلا الخصمين مما به بكى بكى منذر من أن يضاف وطارق يشد من الجوع الإزار على الحشا ومما يدل على ما هم فيه من الجهد وعلى امتداحهم بالأثرة قول الغنوي: إذا الماء بعد اليوم يمذق بعضه ببعض ويبلى شح نفس وجودها وأنا مقار حين يبتكر الغضى إذا الأرض أمست وهي جدب جنودها وقال في ذلك العجير السلولي: من النهديات الماء بالماء بعد ما رمى بالمقاري كل قار ومعتم وقال آخر في مثل هذا: لنا إبل يروين يوماً عيالنا ثلاث فإن يكثرن يوماً فأربع يمدهم بالماء لا من هوانهم ولكن إذا ما قل شيء يوسع على أنها يغشى أولئك بيتها على اللحم حتى يذهب الشر أجمع وقال أبو سعيد الخدري: أخذت حجراً فعصبته على بطني من الجوع وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله.
فلما سمعته وهو يخطب: من يستعف يعفه الله ومن يستعن يعنه الله رجعت ولم أسأله.
قال أعرابي: جعت حتى سمعت من مسامعي دوياً.
فخرجت أريغ الصبد فإذا بمغارة وإذا هو جرو ذئب.
فذبحته وأكلته وادهنت واحتذيت.
ولما قدم المغيرة القادسية على سعد بسبعين من الظهر وعند سعد ضيق شديد من الحال وذكر الأصمعي عن عثمان الشحام عن أبي رجاء العطاردي قال: لما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ في القتل هربنا فاشتوينا فخذ أرنب دفيناً وألقينا عليها جمالنا.
فلا أنسى تلك الأكلة! وكان الأصمعي إذا حدث بهذا الحديث قال: نعم الإدام الجوع ونعم شعار المسلمين التخفيف.
وذكروا عن عبد الملك بن عمير عن رجل من بني عذرة قال: خرجت زائراً لأخوال لي بهجر.
فإذا هم في برث أحمر بأقصى هجر في طلوع القمر.
فذكروا أن أتاناً تعتاد نخلة فترفع يديها وتعطو بفيها وتأخذ الحلقان والمنسبتة والمنصفة والمعوة.
فتنكبت قوسي وتقلدت جفيري.
فإذا قد أقبلت.
فرميتها فخرت لفيها.
فأدركت فقورت سرتها ومعرفتها.
فقدحت ناري وجمعت حطي ثم دفنتها.
ثم أدركني ما يدرك الشباب من النوم.
فما استيقظت إلا بحر الشمس في ظهري.
ثم كشفت عنها.
فإذا لها غطيط من الودك كتداعي طيء وغطيف وغطفان.
ثم قمت إلى الرطب وقد ضربه برد السحر.
فجنيت المعوة والحلقان.
فجعلت أضع الشحمة بين الرطبتين والرطبة بين الشحمتين فأظن الشحمة سمنة ثم سلاءة وأحسبها من حلاوتها شهدة أحدرها من الطور.
وأنا أتهم هذا الحديث لأن فيه ما لا يجوز أن يتكلم به عربي يعرف مذاهب العرب.
وهو من وقال مديني لأعرابي أي شيء تدعون وأي شيء تأكلون قال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين.
فقال المديني: لتهن أم حبين العافية.
وقال الأصمعي: تعرق أعرابي عظماً.
فلما أراد أن يلقيه - وله بنون ثلاثة - قال له أحدهم: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال: أتعرقه حتى لا تجد فيه ذرة مقيلاً.
قال: ما قلت شيئاً! قال الثاني: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال أتعرقه حتى لا تدري ألعامه ذلك هو أم للعام الذي قبله.
قال: ما قلت شيئاً! قال الثالث: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال أجعله مخة إدام.
قال: أنت له! وقال الآخر: فإنك لم تشبه لقيطا وفعله وإن كنت أطعمت الأرز مع التمر وقال الآخر: إذا انغاص منها بعضها لم تجد لها دوياً لما قد كان منها مدانيا وإن حاولوا أن يشبعوها رأيتها على الشعب لا تزداد إلا تداعيا معوذة الإرحال لم توف مرقباً ولم تمتط الجون الثلاث الأثافيا ولا اجترعت من نحو مكة سقة إلينا ولا جازت بها العيس واديا أتتنا تزيجها الجاذيف نحونا وتعقب فيما بين ذاك المراديا فقلت: لمن هذي القدور التي أرى تهيل عليها الريح ترباً وسافيا فقالوا: وهل يخفى على كل ناظر قدور رقاش إن تأمل رائيا فقلت: متى باللحم عهد قدوركم فقالوا: إذا ما لم يكن عواريا من أضحى إلى الأضحى وإلا فإنها تكون بنسج العنكبوت كما هيا فلما استبان الجهد لي في وجوههم وشكواهم أدخلتهم في عياليا فكنت إذا ما استشرفوني مقبلا أشاروا جميعاً لجة وتداعيا ومما قالوا في صفة قدورهم وجفانهم وطعامهم مما أنا كاتبه لك.
وهم وإن كانوا في بلاد جدب فإنهم أحسن الناس حالاً في الخصب.
فلا تظنن أن كل ما يصفون به قدورهم وجفانهم وثريدهم وحيسهم باطل.
وحثني الأصمعي قال: سألت المنتجع بن نبهان عن خصب البادية فقال: ربما رأيت الكلب يتخطى الخلاصة - وهي له معرضة - شبعاً.
وقال الأفوه الأودي: تهنا لثعلبة بن قيس جفنة يأوي إليها في الشتاء الجوع وكأنما فيها المذانب حلقة ودم الدلاء على دلوج ينزع وقال معن بن أوس وهو يذكر قدر سعيد بن العاص في بعض ما يمدحه: أخو شتوات لا تزال قدوره تحل على أرجائها ثم ترحل إذا ما امتطاها الموقدون رأيتها لو شك قراها وهي بالجزل تشعل سمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت كهدر الجمال رزما حين تجفل ترى البازل الكوماء فيها بأسرها مقبضة في قعرها ما تجلجل كأن الكهول الشهب في حجراتها تغطرش في تيارها حين يحفل إذا التطمت أمواجها فكأنها غوائب دهم في المحلة قبل إذا احتدمت أمواجها فكأنما يزعزعها من شدة الغل أفكل تظل رواسيها ركوداً مقيمة لمن نابه فيها معاش ومأكل وضاف الفرزدق أبا السحماء سحيم بن عامر أحد بني عمرو بن مرثد فأحمده وذكر في إحماده قدره فقال: سألنا عن أبي السحماء حتى أتينا خير مطروق لسارى وقام إلى سلافة مسلحب رثيم الأنف مربوب بقار تدور عليهم والقدر تغلي بأبيض من سديف الكوم وارى كأن تطلع الترعيب فيها عذارى يطلعن إلى عذارى وقال الكميت في صفة القدر: إوز تغمس في لجة تغيب مراراً وتطفو مرارا كأن الغطامط من غليها أراجيز أسلم تهجو غفارا وأما ما ذكروا من صفات القدور من تعير بعضهم بعضاً فهو كما أنشدني محمد بن يسير قال: لما قال الأول: إن لنا قدراً ذراعان عرضها وللطول منها أذرع وشبار قال الآخر: وما هذه أخزى اله هذه قدراً! ولكني أقول: بوأت للورى فوضعتها برابية من بين ميث وأجرع جعلت لها هضب الرجام وطخفة وغولاً أثافي دونها لم تنزع بقدر كأن الليل شحنة قعرها ترى الفيل طافياً لم يقطع وقدر كحيزوم النعامة أحمشت بأجذال خشب زال عنها هشيمها قال ميسرة أبو الدرداء: وما حيزوم النعامة والله ما تشبع هذه الفرزدق.
ولكني أقول: وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ترى الفيل طافياً لم يفصل وقال عبد الله بن الزبير يمدح أسماء بن خارجة: ألم تر أن المجد أرسل يبتغي حليف صفاء قابلاً لا يزايله تخير أسماء بن حصن فبطنت بفعل العلا أيمانه وشمائله ومما يجوز في هذا الباب وإن لم يكن فيه صفة قدر قول الفرزدق في العذافر ابن زيد أحد بني تميم اللات بن ثعلبة: لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها بأكثر خيراً من خوان العذافر ولو ضافه الدجال يلتمس القرى وحل على خبازه بالعساكر بعدة يأجوج ومأجوج جوعاً لأشبعهم شهراً غداء العذافر وقال ابن عبدل في بشر بن مروان بن الحكم: ولو شاء بشر كان من دون بابه طماطم سود أو صقالبة حمر ولكن بشراً أسهل الباب للتي يكون لبشر عندها الحمد والأجر وقالوا في مناقضات أشعارهم في القدور قال الرقاشي: لنا من عطاء الله دهماء جونة تناول بعد الأقربين الأقاصيا جعلنا ألالاً والرجام وطففة لها فاستقلت فوقهن أثافيا مؤدية عنا حقوق محمد إذا ما أتانا بائس الحال طاويا أتى ابن يسير كي ينفس كربه إذا لم يرح وافي مع الصبح غاديا فأجابه ابن يسير فقال: وثرماء ثلماء النواحي ولا يرى بها أحد عيباً سوى ذاك باديا ينادي ببعض بعضهم عند طلعتي ألا أبشروا هذا اليسيري جائيا وقال ابن يسير في ذلك: قدر الرقاشي لم تنقر بمنقار مثل القدور ولم تفتض من غار لكن قدر أبي حفض إذا نسبت يوماً ربيبة آجام وأنهار فاعترض بينهما أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي يذكر قدر الرقاشي بالهجاء أيضاً فقال: ودهماء تثفيها رقاش إذا شتت مركبة الآذان أم عيال يغص بحيزوم البعوضة صدرها وتنزلها عفواً بغير جعال هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل ربيع اليتامى عام كل هزال وقال فيها أيضاً: رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر ولو جئتها ملأى عبيطاً مجزلاً لأخرجت ما فيها على طرف الظفر يثبتها للمعتفي بفنائهم ثلاث كحظ الثاء من نقط الحبر تبين في محراثها أن عوده سليم صحيح لم يصبه أذى الجمر تروح على حي الرباب ودارم وسعد وتعروها قراضبة الفزر وللحي عمرو نفحة من سجالها وتغلب والبيض اللهاميم من بكر إذا ما تنادوا بالرحيل سعى بها أمامهم الحولى من ولد الذر وقال بعض التميميين وهو بهجو ابن جبار: لو أن قدراً بكت من طول ما حبست على الحفوف بكت قدر ابن جبار ما مسها دسم مذ فض معدنها ولا رأت بعد نار القين من نار والشعوبية والآزاد مردية المبغضون لآل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن فتح الفتوح ورفاغة عيشهم.
وهم أحسن الأمم حالاً مع الغيث وأسوئهم حالاً إذا خفت السحاب.
حتى ربما طبق الغث الأرض باكلإ والماء.
فعند ذلك يقول المصرم والمقتر: مرعى ولا أكولة وعشب ولا بعير وكلاً تيجع له كبد المصرم.
ولذلك قال شاعرهم: فجنبك الجيوش أبا زنيب وجاد على مسارحك السحاب وإذا نظرت في أشعارهم علمت أنهم قد أكلوا الطيب وعرفوه لأن الناعم من الطعام لا يكون إلا عند أهل الثراء وأصحاب العيش.
فقال زياد بن فياض يذكر الدرمك وهو الحواري: ولا قد فتى قيس بن عيلان ماجداً إذا الحرب هرتها الكماة الفوارس فقام إلى البرك الهجان بسيفه وطارت حذار السيف دهم قناعس فصادف حد السيف قباء جلعداً فكاست وفيها ذو غرارين نايس فأطعمها شحماً ولحماً ودرمكاً ولم يثننا عنه النسيم الحنادس وقال: تظل في درمك وفاكهة وفي شواء ما شئت أو مرقه وقال جرير: وقال النمر بن تولب: لها ما تشتهي عسل مصفى وإن شاءت فحواري بسمن ومن أشرف ما عرفوه من الطعام - ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام إلا عبد الله بن جدعان - وهو الفالوذق.
مدحه بذلك أمية بن أبي الصلت فقال: إلى ردح من الشيزى عليها لباب البر يلبك بالشهادة ولهم الثريد.
وهو في أشرافهم عام.
وغلب على هاشم حين هشم الخبز لقومه.
وقد مدح به في شعر مشهور وهو قوله: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف ومن الطعام الممدوح الحيس.
وتزعم مخزوم أن أول من حارس الحيس سويد بن هرمى.
وقال الشاعر: وإذا تكون شديدة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب والخبز عندهم ممدوح.
وكان عبد الله بن حبيب العنبري أحد بني سمرة يقال له آكل الخبز لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن.
وكان سيد بني العنبر في زمانه.
وهم إذا فخروا قالوا: منا آكل الخبز ومنا مجير الطير يعني ثوب بن شحمة العنبري.
قرتني عبيد تمرها وقريتها سنام مصراة قليل ركوبها فهل يستوي شحم السنام إذا شتا وتمر جواثي حين يلقى عسيبها وليس يكون فوق عقر الإبل وإطعام السنام شيء.
والعقر هو النجدة واللبن هو الرسل.
قال الهذلي: لو أن عندي من قريم رجلاً لمنعوني نجدة ورسلا وقال الهزلي: ألا إن خير الناس رسلاً ونجدة وقال المرار بن سعيد الفقعسي: لهم إبل لا من ديات ولم تكن مهوراً ولا من مكسب غير طائل ولكن حماها من شماطيط غارة خلال العوالي فارس غير مائل مخيسه في كل رسل ونجدة ومعروفة ألوانها في المعاقب وقد وصفوا الثريد فقال الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع على أيدى الرجل جمودها وقال آخر: وقال ابن هرم: إلى أن أتاهم بشيزية تعد كواكبها الشبك وقال كامل بن عكرمة: فقرب بينهم خبزاً ركودا كساها الشحم ينهمر إنهمارا يدف بها غلاماه جميعاً تردهما إلى الأرض انهصارا فأصبح سورهم فيها وعلمن لو أن العلم صنفها شيارا فهذا في صفة الثريد.
وقال بشر بن أبي خازم: ترى ودك السديف على لحاهم كلون الرار لبده الصقيع وقال الآخر: جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه وطيب الدهان رأسه فهو أنزع إذا النفر السود اليمانون حاولوا له حوك برديه أرقوا وأوسعوا وقال الزبير بن عبد المطلب: فإنا قد خلقنا إذ خلقنا لنا الحبراة والمسك الفتيت ثيابهم شمال أو عباء بها دنس كما دنس الحميت فميز - كما ترى بين لباس الأشراف وأهل الثروة وغيرهم.
وقال الأعشى: والمشرف العود فأكنافه ما بين حمران فينصوب خير لها إن خشيت جحرة من ربها زيد بن أيوب متكئاً تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب وقال أبو الصلت بن ربيعة: اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً في رأس غمدان داراً منك محلالا وليس هذا من باب الإفراط كقول جران العود حين وصف نفسه وعشيقته فقال: فأصبح في حيث التقينا غنيمةً سوار وخلخال ومرط ومطرف ومنقطعات من عقود تركنها كجمر الغضى في بعض ما تتخطرف ومن ذلك قول عدي بن زيد: يا لبينى أوقدي النار إن من تهوين قد حارا رب نار بت أرقبها تقضم الهندي والغاران أرى في الهوى ناراً لظبية أوقدت يشب ويذكى بعد وهن وقودها تشب بعيدان اليلنجوج موهناً وبالرند أحيناً فذاك وقودها قد ذكرنا الطعام الممدوح ما هو وذكرنا أحد صنفي الطعام المذموم.
والصنف الآخر الجزيرة التي تعاب مجاشع بن درام وكنحو السخينة التي تعاب بها قريش.
قال خداش بن زهير: يا شدةً ما شددنا غير كاذبة على سخينة لولا الليل والحرم وقال عبد الله بن همام: إذاً لضربتهم حتى يعودوا بمكة يلعقون بها السخينا وقال جرير: وضع الخزير فقيل: أين مجاشع فشحا جحافله هجف هبلع والخزير لم يكن من طعامهم.
وله حديث.
والسخينة كانت من طعام قريش.
وتهجى الأنصار وعبد القيس وعذرة وكل من كان يقرب النخل - بأكل التمر.
فقال الفرزدق: لست بسعد على فيه حبرة ولست بعبد حقيبته التمر وتهجا أسد بأكل الكلاب وبأكل لحوم الناس.
والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً ألزمت ذلك القبيلة كلها.
كما تمدح القبيلة بفعل جميل وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها: فتهجوا قريشاً بالسخينة وعبد القيس بالتمر وذلك عام في الحيين جميعاً.
وهما من صالح الأغذية والأقوات.
كما تهجو بأكل الكلاب والناس وإن كان ذلك إنما كان من رجل واحد فلعلك إذا أردت التحصيل تجده معذوراً.
قال الشاعر: يا فقعسي لما أكلته لمه لو خافك الله عليه حرمه فما أكلت لحمه ولا دمه وقال في ذلك مساور بن هند: إذا أسدية ولدت غلاماً فبشرها بلؤم في الغلام تخرسها نساء بني دبير بأخبث ما يجدن من الطعام ترى أظفار أعقد ملقات براثنها على وضم الثمام وقال: بني أسد عن يمحل العام فقعس فهذا إذاً دهر الكلاب وعامها إذا أسدى جاع يوماً ببلدة وكان سمينا كلبه فهو آكله وتهجى أسد وهذيل والعنبر وبأهلة بأكل لحوم الناس.
قال الشاعر في هذيل: وأنتم أكلتم سحفة ابن مخدم زماناً فما يأمنكم أحد بعد تداعوا له من بين خمس وأربع وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد وقال حسان فيهم: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع وسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم فالشاة والكلب والإنسان سيان وهجا شاعر بلعنبر وهو يريد ثوب بن شحمة.
وفيه حديث: عجلتم ما صدكم علاجي من العنوق ومن النعاج حتى أكلتم طفلة كالعاج ولما عير ثوب بن شحمة بأكل الفتى العنبري لحم المرأة سكت إلى أن نزل هو من الجبل فقال: يا بنت عمى ما أدراك ما حسبي إذ لا تجن خبيث الزاد أضلاع إني لذو مرة تخشى بوادره عند الصباح بنصل السيف قراع فهجا ثوب بن شحمة بأكل لحوم المرأة.
وكان ثوب هذا أكرم نفساً عندهم من أن يطعم طعاماً خبيثاً ولو مات عندهم جوعاً.
وله قصص.
ولقد أسر حاتماً الطائي وظل عنده زماناً.
وقال الشاعر يهجوا بأهلة بمثل ذلك: إن عفاقا أكلته باهله تمششوا عظامه وكاهله وأصبحت أم عفاق ثاكله وهجيت بذلك أسد جميعاً بسبب رملة بنت فائد بن حبيب بن خالد بن نضلة حين أكلها زوجها وأخوها أبو أرب.
وقد زعموا أن ذاك إنما كان منهما من طريق الغيظ والغيرة.
فقال ابن دارة ينعى ذلك عليهم: أفي أن رويتم واحتلبتم شكيكم فخرتم وفيم الفقعسي من الفخر ورملة كانت زوجة لفريقكم وأخت فريق وهي مخزية الذكر أبا أرب كيف القرابة بينكم وإخوانكم من لحم أكفالها العجر وقال: عدمت نساء بعد رملة فائد - بني فقعس - تأتيكم بأمان وباتت عروسا ثم أصبح لحمها جلا في قدور بينكم وجفان يا صلت إن محل بيتك منتن فارحل فإن العود غير صليب وإذا دعاك إلى المعاقل فائد فاذكر مكان صدارها المسلوب والآن فادع أبا رجال إنها شنعاء لاحقة بأم حبيب وأبو رجال هذا عمها.
وقال في ذلك معروف الدبيري: إذا ما ضفت ليلا قفعسيا فلا تطعم له أبداً طعاما فإن اللحم إنسان فدعه وخير الزاد ما منع الحراما وهذا الباب يكثر ويطول.
وفيما ذكرنا دليل على ما قصدنا إليه من تصنيف الحالات.
فإن أردته مجموعاً فاطلبه في كتاب الشعوبية فإنه هناك مستقصىً.
والأعرابي إذا أراد القرى ولم ير ناراً نبح فيجاوبه الكلب فيتبع صوته.
ولذلك قال الشاعر: ومسنتنبح أهل الثرا يطلب القرى إلينا وممساه من الأرض نازح وقال الآخر: عوى حدس والليل مستحلس الندى لمستنبح بين الرميثة والحصر وعاو عوى والليل مستحلس الندى وقد زحفت للغور تالية النجم فمنهم من يبرز كلبه ليجيب ومنهم من يمنعه ذلك.
قال زياد الأعجم وهو يهجو بني عجل: وتكلم كلب الحي من خشية القرى وقدرك كالعذراء من دونها ستر وقال آخر: نزلنا بعمار فأشلي كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل فقلت لأصحابي أسر إليهم: إذا اليوم أم يوم القيامة أطول وقال آخر: أعددت للضيفان كلباً ضارياً عندي وفضل هراوة من أرزن وقال أعشى بن تغلب: إذا حلت معاوية بن عمرو على الأطواء خنقت الكلابا وأنشدني ابن الأعرابي وزعم أنه من قول المجنون: ونار قد رفعت لغير خير رجاه لمن تأوبني الرعا تأوبني طويل الشخص منهم يجر ثقاله يرجو العشا فكان عشاءه عندي خزير بتمر مهينة فيه النوى أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل وقال المرار الحماني في كلبه: ألف الناس فما ينبحهم من أسيف يبتغي الخير وحر وقال عمران بن عصام: لعبد العزيز على قومه وغيرهم منن غامره فبابك ألين أبوابهم ودارك مأهولة عامرة وكلبك آنس بالمعتفين من الأم بابنتها الزائره وكفك حين ترى السائلي ن أندى من الليلة الماطرة وفي أنس الكلاب بالناس لطول الرؤية لهم شعر كثير.
وقال الشاعر: يا أم عمرو أنجزي الموعودا وارعي بذاك أمانة وعهودا ولقد طرقت كلاب أهلك بالضحا حتى تركت عقورهن رقودا رأتني كلاب الحي حتى ألفني ومدت نسوج العنكبوت على رحلي وقال الآخر: بات الحويرث والكلاب تشمه وسرت بأبيض كالهلال على الطوى هذا البيت يدخل في هذا الباب.
وقال الآخر: لو كنت أحمل خمراً يوم زرتكم لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك تفغمني والعنبر الورد أذكيه على النار فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني وكان يعرف ريح الزق والقار وقال هلال بن خثعم: إني لعف عن زيارة جارتي وإني لمشنوء إلى اغتيابها إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءوراً ولم تأنس إلى كلابها وما أنا بالداري أحاديث بيتها ولا عالم في أي حوك ثيابها وقال ابن هرمة في فرح الكلب بالضيف لعادة النحر: وفرحة من كلاب الحي يتبعها محض يزف به الراعي وترعيب وقال ابن هرة: فجاء خفي الشخص قد رامه الطوى بضربة مسنون الغرارين قاضب فرحبت واستبشرت حين رأيته وتلك التي ألقى بها كل ثائب وفي منع الكلب من النباح يقول الراعي في الحطيئة: إلا قبح الله الحطيئة إنه على كل ضيف ضافه فهو سالح دفعت إليه وهو يخنق كلبه ألا كل كلب - لا أبا لك! نابح بكيت على مذق خبيث قريته ألا كل عبسي على الزاد نائح وقد قالوا في صفة أبواب أهل المقدرة والثروة إذا كانوا يقومون بحق النعمة.
قال الرجز: إن الندى حيث ترى الضغاطا وقال الآخر: يزدحم الناس على بابه والشرع السهل كثير الزحام وقال الآخر: وإذا افتقرت رأيت بابك خالياً وترى الغني يهدي لك الزوارا وليس هذا من الأول إنما هذا مثل قوله: ألم تر بيت الفقر يهجر أهله وبيت الغني يهدي له ويزار إذا ما قل مالك كنت فرداً وأي الناس زوار المقل والعرب تفضل الرجل الكسوب والغر الطلوب ويذمون المقيم الفشل والدثر والكسلان.
ولذلك قال شاعرهم وهو يمدح رجلاً: شتى مطالبه بعيد همه جواب أودية برود المضجع ومدح آخر نفسه فقال: فإن تأتيني في الشتاء وتلمسا مكان فراشي فهو بالليل بارد وقال آخر: إلى ملك لا ينقض النأي عزمه خروج تروك للفراش الممهد وقال الآخر: فذاك قصير الهم يملأ عزمه من النوم إذ ملقى فراشك بارد وقال الآخر: أبيض بسام برود مضجعه اللقمة الفرد مراراً تشبعه وهم يمدحون أصحاب النيران ويذمون أصحاب الإخماد.
قال الشاعر: وما إن كان أكثرهم سواماً ولكن كان أرحبهم ذراعا وقال مزرد بن ضرار: فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت بعلياء نشر للعيون النواظر جعلها شقراء ليكون أضوء لها.
وكذلك النار إذا كان حطبها يابساً كان أشد لحمرة ناره.
وإذا كثر دخانه قل ضوءه.
وقال الآخر: ونار كسجر العود يرفع ضوءها مع الليل هبات الرياح الصوارد وكلماكان موضع النار أشد ارتفاعاً كان صاحبها أجود وأمجد لكثرة من يراها من البعد.
ألا ترى النابغة الجعدي حين يقول: منع الغدر فلم أهمم به وأخو الغدر إذا هم فعل خشية الله وأني رجل إنما ذكرى كنار بقبل وقالت الخنساء السلمية: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وليس يمنعني من تفسير كل ما يمر إلا اتكالي على معرفتك.
وليس هذا الكتاب نفعه إلا لمن ومما يدل على كرم القوم أيمانهم الكريمة وأقسامهم الشريفة.
قال معدان بن جواس الكندي: إن كان ما بلغت عني فلامني صديقي وحزت من يدي الأنامل وكفنت وحدي منذراً في ردائه وصادف حوطاً من أعادي قاتل وقال الأشتر مالك بن الحارث في مثل ذلك أيضاً: بقيت وحدي وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشن على ابن حرب غارة لم تخل يوماً من نهاب نفوس خيلاً كأمثال السعالي شذباً تغدو ببيض في الكريهة شوس حمى الحديد عليهم فكانت لمعان برق أو شعاع شموس وقال ابن سيحان: حرام كنتي مني بسوء وأذكر صاحبي أبداً بذام لقد أحرمت ود بني مطيع حرام الدهن للرجل الحرام وحرهم الذي قد ستروه ومجلسهم بمعتلج الظلام وإن جنف الزمان مددت حبلاً متيناً من حبال بني هشام وريق عودهم أبداً رطيب إذا ما أغبر عيداناللئام
وكان يقبل على كل من أكل خبزه بكل علة ويطالبه بكل طائلة وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن جلاد الدم.
وكان إن قال له نديم له: ما في الأرض أحد أمشي مني ولا على ظهرها أحد أقوى على الحضر مني! قال: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة وهل يحمل الرجل إلا البطن لا حمد الله من يحمدك! فإن قال: لا والله إن أقدر أن أمشي لأني أضعف الخلق عنه وإني لأنبهر من مشى ثلاثين خطوة! قال: وكيف تمشي وقد جعلت في بطنك ما يحمله عشرون حمالاً! وهل ينطلق الناس إلا مع خفة الأكل وأي بطين بقدر على الحركة وإن الكظيظ ليعجز عن الركوع والسجود فإن شكا ضرسه وقال: ما نمت البارحة مع وجعه وضربانه قال: عجبت كيف اشتكيت واحداً وكيف لم تشتك الجميع! وكيف بقيت إلى اليوم في فيك حاكة! وأي ضرس يقوى على الدرس والطحن! والله إن الأرحاء السورية لتكل وإن الميجان الغليظ ليتعبه الدق! ولقد استبطأت لك هذه العلة! ارفق فإن الرفق يمن ولا تخرق بنفسك فإن الخرق شؤم! وإن قال: لا والله إن اشتكيت ضرساً لي قط ولا تجلجل لي سن عن موضعه منذ عرفت نفسي قال: يا مجنون! لأن كثرة المضغ تشد العمور وتقوي الأسنان وتدبغ اللثة وتغدو أصولها.
وإعفاء الأضراس من المضغ يريحها.
وإنما الفم جزء من الإنسان.
وكما الإنسان نفسه إذا تحرك وعمل قوى وإذا طال سكونه تفتخ واسترخى فكذلك الأضراس.
ولكن رفقاً! فإن الإتعاب ينقص القوة.
ولكل شيء مقدار ونهاية.
فهذا ضرسك لا تشتكيه بطنك أيضاً لا تشتكيه فإن قال: والله إن أروى من الماء.
وما أظن أن في الدنيا أحداً أشرب مني للماء قال: لابد للتراب من ماء ولابد للطين من ماء يبله ويرو.
أوليست الحاجة على قدر كثرته وقلته والله لو شربت ماء الفرات ما استكثرته لك مع ما أرى من شدة أكلك وعظم لقمتك! تدري ما قد تصنع أنت والله تلعب! أنت لست ترى نفسك! فسل عنك من يصدقك حتى تعلم أن ماء فإن قال: ما شربت اليوم ماء البتة وما شربت أمس بمقدار نصف رطل وما في الأرض إنسان أقل شرباً مني للماء قال: لأنك لا تدع لشرب الماء موضعاً! ولأنك تكنز في جوفك كنزاً لا يجد الماء معه مدخلاً! والعجب لا تتخم لأن من لا يشرب الماء على الخوان لا يدري مقدار ما أكل ومن جاوز مقدار الكفاية كان حرياً بالتخمة.
فإن قال: ما أنام الليل كله وقد أهلكني الأرق قال: وتدعك الكظة والنفخة والقرقرة أن تنام والله لو لم يكن إلا العطش الذي ينبه الناس لما نمت.
ومن شرب كثيراً بال كثيراً.
ومن كان الليل كله بين شرب وبول كيف يأخذه النوم فإن قال: ما هو إلا أن أضع رأسي فإنما أنا حجر ملقى إلى الصبح قال: ذلك لأن الطعام يسكن ويخدر ويحير ويبل الدماغ ويبل العروق ويسترخي عليه جميع البدن.
ولو كان في الحق لكان ينبغي أن تنام الليل والنهار! فإن قال: أصبحت وأنا لا أشتهي شيئاً قال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً فإن أكل القليل على غير شهوة أضر من الكثير مع الشهوة.
قال الخوان: ويل لي ممن قال: لا أريد! وبعد وكيف تشتهي الطعام اليوم وأنت قد أكلت بالأمس طعام عشرة! وكان كثيراً ما يقول لندمائه: إياكم والأكل على الخمار فإن دواء الخمار الشراب.
الخمار تخمة.
والمتخم إذا أكل مات لا محالة.
وإياكم والإكثار في عقب الحجامة والفصد والحمام.
وعليكم بالتخفيف في الصيف كله.
واجتنبوا اللحم خاصة.
وكان يقول: ليس يفسد الناس إلا الناس: هذا الذي يتكلم بالكلام البارد وبالطرف المستنكرة لو لم يصب من يضحك له وبعض من يشكره ويتضاحك له - أوليس هو عنده إلا أن يظهر العجب له - لما تكلف النوادر.
ألا أهلك قول الناس للأكول النهم وللرغيب الشره: فلان حسن الأكل! هو الذي أهلكه وزاد في رغبته حتى جعل ذلك صناعة وحتى ربما أكل - لمكان قولهم وتقريبهم وتعجبهم - ما لا يطيقه فيقتل.
فلا يزال قد هجم على قوم فأكل زادهم وتركهم بلا زاد! فلو قالوا بدل قولهم: فلان حسن الأكل: فلان أقبح الناس أكلاً كان ذلك صلاحاً لفريقين.
ولا يزال البخيل على الطعام قد دعا الرغيب البطن واتخذ له الطعام الطيب لفي عن نفسه المقالة وليكذب عن نفسه تلك الظنون.
ولو كان شدة الضرس يعد في المناقب ويمدح صاحبه في المجالس لكان الأنبياء آكل الخلق ولخصهم الله - جل ذكره - من الرغب بما لم يعطه أحداً من العالمين.
وكيف وفي مأثور الحديث: ( إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن المنافق يأكل في سبعة أمعاء ).
أولسنا قد نراهم يشتمون بالنهم وبالرغب وبكثرة الأكل ويمدحون بالزهادة وبقلة الطعام أوليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أدله على الحسناء القتين وقد ساب رجل أيوب ابن سليمان بن عبد الملك فقال في بعض ما يسبه: ماتت أمك بغراً وأبوك بشماً! وبعد فهل سمعتم بأحد قط فخر بشدة أكل أبيه فقال: أنا ابن آكل العرب بل قد رأينا أصحاب النبيذ والفتيان يتمدحون بكثرة الشرب كما يتمدحون بقلة الرزق.
ولذلك قالت العرب: قال الشاعر: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر وقال: لا يتأرى لما في القدر يطلبه ولا تراه أمام القوم يقتفر وقال: لا يغمز الساق من أين ولا وصم ولا يعض على شرسوفه الصفر والصفر هي حيات البطون إنما تكون من الفضول والتخم ومن الفساد والبشم.
وشرب مرة نبيذ وغناه المغنى فشق قميصه من الطرب.
فقال لمولى له له يقال له المحلول وهو إلى جنبه: شق أيضاً أنت - ويلك - قميصك! - والمحلول هذا من الآيات - قال: لا والله لا أشقه وليس لي غيره.
قال: فشقه وأنا أكسوك غداً.
قال: فأنا أشقه غداً.
قال: أنا ما أصنع فلم أسمع بإنسان يقايس ويناظر في الوقت الذي إنما يشق فيه القميص من غلبة الطرب غيره وغير مولاه محلول.
دخل على الأعمى على يوسف بن كل خير وقد تغدى.
فقال: يا جارية هاتي لأبي الحسن غداء.
قالت: لم يبق عندنا شيء.
قال: هاتي - ويلك! - ما كان فليس من أبي الحسن حشمة! ولم يشك على أنه سيؤتي برغيف ملطخ وبرقاقة ملطخة وبسكر وبقية مرق وبعرق وبفضلة شواء وببقايا ما يفضل في الجامات والسكرجات.
فجاءت بطبق ليس عليه إلا رغيف أرز قاحل لا شيء غيره.
فلما وضعوا الخوان بين يديه فأجال يده فيه وهو أعمى فلم يقع إلا على ذلك الرغيف وقد عل أن قوله: ليس منه حشمة لا يكون إلا مع القليل.
فلم يظن أن الأمربلغ ذلك.
فلما لم يجد غيره قال: ويلكم! ولأكل هذا بمره رفعتم الحشمة كلها والكلام لم يقع إلا على هذا حدثني محمد بن حسان الأسود قال: أخبرني زكريا القطان قال: كان للغزال قطعة أرض قدام حانوتي فأكرى نصفها من سماك يسقط عنه ما استطاع من مؤنة الكراء.
قال: وكان الغزال أعجوبة في البخل.
وكان يجيء من منزله ومعه رغيف في كمه.
فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم.
فإذا أعيا عليه الأمر أخذ من ساكنه جوافة بحبة وأثبت عليها فلساً في حسابه! فإذا أراد أن يتغدى أخذ الجوافة فمسحها على وجه الرغيف ثم عض عليه! وربما فتح بطن الجوافة فيطر جنبيها وبطنها باللقمة بعد اللقمة! فإذا خاف أن ينهكها ذلك وينضم بطنها طلب من ذلك السماك شيئاً من ملح السمك فحشا جوفها لينفخها وليوهم أن هذا هو ملحها الذي ملحت به! ولربما غلبته شهوته فكدم طرف أنفها وأخذ من طرف الأرنبة ما يسيغ به لقمته! وكان ذلك منه لا يكون إلا في آخر لقمة ليطيب فمه بها! ثم يضعها في ناحية.
فإذا اشترى من امرأة غزلاً أدخل تلك الجوافة في ثمن الغزل من طريق إدخال العروض وحسبها عليها بفلس فيسترجع رأس المال ويفضل الأدم.
وروى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشيء يجلس إلي.
وكان ربما انصرف معي إلى المنزل فيتغذى معنا ويقيم إلى أن يبرد.
وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال.
فألح علي في الاستزارة وصممت عليه في الامتناع.
فقال: جعلت فداك! أنت تظن أني ممن يتكلف وأنت تشفق علي! لا والله! إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب! فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه.
وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات.
ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه.
وما أظن أن أحداً يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنة ثم يأتيه بكسرات وملح.
فلما صرت عنده وقربه إلي إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة! قال: بورك فيك! فأعاد الكلام فأعاد عليه مثل ذلك القول.
فأعاد عليه السائل فقال: اذهب - ويلك! - فقد ردوا عليك.
فقال السائل: سبحان الله! ما رأيت كاليوم أحداً يرد من لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب - ويلك! - وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرح نفسك فإنك لو تعرف من صدق وعبده مثل الذي أعرف لما وقفت طرفة عين بعد رده إياك! وكان أبو يعقوب الذقنان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال.
وكان إذا كان يوم الجمعة اشترى لحم بقر بدرهم واشترى بصلاً بدانق وباذنجاناً بدانق وقرعة بدانق.
فإذا كان أيام الجزر فجزر بدانق! وطبخه كله سكباجاً.
فأكل وعياله يومئذ خبزهم بشيء من رأس القدر وما ينقطع في القدر من البصل والباذنجان والجزر والقرع والشحم واللحم.
فإذا كان يوم السبت ثردوا خبزهم في المرق.
فإذا كان يوم الأحد أكلوا البصل.
فإذا كان يوم الاثنين أكلوا الجزر.
فإذا كان يوم الثلاثاء أكلوا القرع.
فإذا كان يوم الأربعاء أكلوا الباذنجان.
فإذا كان يوم الخميس أكلوا اللحم.
فلهذا كان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال! قال أصحابنا: نزلنا بناس من أهل الجزيرة وإذا هم في بلاد باردة وإذا حطبهم شر حطب وإذا الأرض كلها غابة واحدة طرفاء.
فقلنا: ما في الأرض أكرم من الطرفاء.
قالوا: هو كريم ومن كرمه نفر.
فقلنا: وما الذي تفرون منه قالوا: دخان الطرفاء يهضم الطعام وعيالنا كثير! وقد عاب ناس أهل المازح والمديبر بأمور: منها أن خشكانهم من دقيق شعير وحشوه الذي فيه من الجوز والسكر من دقيق خشكار.
وأهل المازج لا يعرفون بالبخل.
ولكنهم أسوأ الناس حالاً.
فتقديرهم على قدر عيشهم.
وإنما نحكي عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب.
فأما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف إلا الضيق فليس سبيله سبيل القوم.
قال المكي: كان لأبي عم يقال له سليمان الكثري.
سمى بذلك لكثرة ماله.
وكان يقربني وأنا صبي إلى أن بلغت.
ولم يهب لي مع ذلك التقريب شيئاً قط.
وكان قد جاوز في ذلك حد البخلاء.
فدخلت عليه يوماً وإذا قدامه قطع دار صيني لا تسوى قيراطاً.
فلما نال حاجته منها مددت يدي لآخذ منها قطعة.
فلما نظر إلي قبضت يدي! فقال: لا تنقبض وانبسط واسترسل.
وليحسن ظنك فإن حالك عندي على ما تحب! فخذه كله فهو لك بزوبره وبحذافيره! وهو لك جميعاً! نفسي بذلك سخية! والله أعلم أني مسرور بما وصل إليك من الخير! فتركته بين يديه وقمت من عنده وجعلت وجهي كما أنا إلى العراق! فما رأيته وما رآني حتى مات.
وقال المكي: سمعني سليمان وأنا أنشد شعر امرئ القيس: لنا غنم نسوقها غزار كأن قرون جلتها العصي فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً وحسبك من غنىً شبع وروي قال: لو كان الذي قال ليحيى بن خالد حين نقب في أبي قبيس وزاد في داره: عمدت إلى شيخ الجبال فزعزعته وثلمت فيه.
وقال حين عوتب في قلة الضحك وشدة القطوب: إن الذي يمنعني من الضحك أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل إذا ضحك وطابت نفسه! صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلاً.
فلما صرت قرب منزله - وكان منزله أقرب إلى مسجد الجامع من منزلي - سألني أن أبيت عنده.
وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد ومنزلي منزلك وأنت في ظلمة وليس معك نار وعندي لباً لم ير الناس مثله وتمر ناهيك به جودة لا تصلح إلا له! فملت معه فأبطأ ساعة.
ثم جاءني بجام لبإ وطبق تمر.
فلما مددت قال: يا أبا عثمان إنه لبإ وغلظه! وهو الليل وركوده! ثم ليلة مطر ورطوبة وأنت رجل قد طعنت في السن.
ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً.
وما زال الغليل يسرع إليك.
وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء! فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك.
ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك.
وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك ولم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً.
وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً: كان وكان! والله وقد وقعت بين نابي أسد! لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك قلت: بخل به وبدا له فيه.
وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت: لم يشفق علي ولم ينصح.
فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً.
وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة! فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة.
ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فيما أظن.
ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضى علي.
ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب.
وقال أبو القماقم: أول الإصلاح ألا يرد ما صار في يدي لك فإن كان ما صار في يدي لي فهو لي وإن لم يكن لي فأنا أحق به ممن صيره في يدي! ومن أخرج من يده شيئاً إلى يد غيره من غير ضرورة فقد أباحه لمن صيره إليه! وتعريفك إياه مثل إباحته.
وقالت له امرأة: ويحك يا أبا القماقم! إني قد تزوجت زوجاً نهارياً والساعة وقته.
وليست على هيئته.
فاشتر لي بهذا الرغيف أساً وبهذا الفلس دهناً فإنك تؤجر! فعسى الله أن يلقي محبتي في قلبه فيرزقني على يدك شيئاً أعيش به فقد والله ساءت حالي وبلغ المجهود مني - فأخذهما وجعله وجهه! فرأته بعد أيام فقالت: سبحان الله! أما رحمتني مما صنعت بي! قال: ويحك! سقط والله مني الفلس فمن الغم أكلت الرغيف! وتعشق واحدة فلم يزل يتبعها ويبكي بين يديها حتى رحمته.
وكانت مكثرة وكان مقلاً.
فاستهداها هريسة وقال: أنتم أحذق بها! فلما كان بعد أيام تشهى عليها رءوساً.
فلما كان بعد قليل طلب منها حيسة.
فلما كان بعد ذلك تشهى عليها طفيشلية.
قالت المرأة: رأيت عشق الناس يكون في القلب وفي الكبد وفي الأحشاء.
وعشقك أنت ليس يجاوز معدتك! وقال أبو الأصبغ: ألح أبو القماقم على قوم عند الخطبة إليهم يسأل عن مال امرأة ويحصيه ويسأل عنه.
فقالوا: قد أخبرناك بما لها فأنت أي شيء مالك قال: وما سؤالكم عن مالي الذي لها يكفيني ويكفيها! سمعت شيخاً من مشايخ الأبلة يزعم أن فقراء أهل البصرة أفضل من فقراء أهل الأبلة.
قلت: بأي شيء فضلتم قال: هم أشد تعظيماً للأغنياء وأعرف بالواجب.
ووقع بين رجلين أبليين كلام فأسمع أحدهما صاحبه كلاماً غليظاً فرد عليه مثل كلامه.
فرأيتهم قد أنكروا ذلك إنكاراً شديداً ولم أر لذلك سبباً.
فقلت: لم أنكرتم أن يقول له مثل ما قال قالوا: لأنه أكثر منه مالاً.
وإذا جوزنا هذا له جوزنا لفقرائنا أن يكافئوا أغنياءنا ففي هذا الفساد كله! وقال حمدان بن صباح: كيف صار رياح يسمعني ولا أسمعه أفهو أكثر مالاً مني ثم قال: ويكون الزائر من أهل البصرة عند الأبلى مقيماً مطمئناً.
فإذا جاء المد قالوا: ما رأينا مداً قط ارتفع ارتفاعه.
وما أطيب السير في المد! والسير في المد إلى البصرة أطيب من السير في الجزر إلى الأبلة! فلا يزالون به حتى أن من الرأي أن يغتنم ذلك المد بعينه! كان أحمد الخاركي بخيلاً وكان نفاجاً.
وهذا أغيظ ما يكون.
وكان يتخذ لكل جبة أربعة أزرار ليرى الناس أن عليه جبتين ويشتري الأعذاق والعراجين والسعف من الكلاء فإذا جاء الحمال إلى بابه تركه ساعة يوهم الناس أن له من الأرضين ما يحتمل أن يكون ذلك كله منها.
وكان يكتري قدور الخمارين التي تكون للنبيذ ثم يتحرى أعظمها ويهرب من الحمالين بالكراء كي يصيحوا بالباب: يشترون الداذي والسكر ويحبسون الحمالين بالكراء! وليس في منزله رطل دبس! وسمع قول الشاعر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا عنا ولكن خفت مرزئة الذباب فقال: ولم ذب عنهم لعنه الله! ما أعلم إلا أنه شهى إليهم الطعام ونظف لهم القصاع وفرغهم له وسخرهم عليه! ثم ألا تركها تقع في قصاعهم وتسقط على آنافهم وعيونهم! هو والله أهل لما هو أعظم من هذا! كم ترون من مرة قد أمرت الجارية أن تلقي في القصعة الذبابة والذبابتين والثلاثة حتى يتقزز بعضهم ويكفي الله شره! قال: وأما قوله: رأيت الخبز عز لديك حتى قال: فإن لم أعز هذا الشيء الذي هو قوام أهل الأرض وأصل الأقوات وأمير الأغذية فأي شيء أعز إي والله إني أعزه وأعزه وأعزه وأعزه مدى النفس ما حملت عيني الماء.
وبلغ من نفجه مع ذلك ما أخبرني به إبراهيم بن هانئ قال: كنت عنده يوماً إذ مر به بعض الباعة فصاح الخوخ الخوخ! فقلت: وقد جاء الخوخ بعد قال: نعم قد جاء وقد أكثرنا منه.
فدعاني الغيظ عليه إلى أن دعوت البياع وأقبلت على ابن الخاركي فقلت: ويحك! نحن لم نسمع به بعد وأنت قد أكثرت منه! وقد تعلم أن أصحابنا أترف منك! ثم أقبلت على البياع فقلت: كيف تبيع الخوخ فقال: ستة بدرهم قلت: أنت ممن يشتري ست خوخات بدرهم وأنت تعلم أنه بياع بعد أيام مائتين بدرهم ثم تقول: وقد أكثرنا منه وهذا يقول: ستة بدرهم قال: وأي شيء أرخص من ستة أشياء بشيء كان غلام صالح بن عفان يطلب منه لبيت الحمار بالليل.
فكان يعطيه كل ليلة ثلاثة أفلس - والفلوس أربعة طسوج - ويقول: طسوج يفضل وحبة تنقص وبينهما يرمي الرامي! وكان يقول لابنه: تعطي صاحب الحمام وصاحب المعبر لكل واحد منهما طسوجاً وهو إذا لم ير معك إلا ثلاثة أفلس لم يردك قال أبو كعب: دعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه ليفطروا عنده في شهر رمضان.
وكنت فيهم.
فلما صلينا المغرب ونجز ابن جناح أقبل علينا ثم قال: لا تعجلوا فإن العجلة من الشيطان.
وكيف لا تعجلون وقد قال الله جل ذكره: وكان الإنسان عجولاً وقال: خلق الإنسان من عجل - اسمعوا ما أقول فإن فيما أقول حسن المؤاكلة والبعد من الأثرة والعاقبة الرشيدة والسيرة المحمودة.
وإذا مد أحدكم يده إلى الماء فاستسقى - وقد أتيتم ببهطة أو بجوذابة أو بعصيدة أو ببعض ما يجري في الحلق ولا يساغ بالماء ولا يحتاج فيه إلى مضغ وهو طعام يد لا طعام يدين وليست على أهل اليد منه مؤنة وهو مما يذهب سريعاً - فأمسكوا حتى يفرغ صاحبكم فإنكم تجمعون عليه خصالاً: منها أنكم تنغصون عليه بتلك السرعة إذا علم أنه لا يفرغ إلا مع فراغكم.
ومنها أنكم تخنقونه ولا يجد بداً من مكافأتكم فلعله أن يتسرع إلى لقمة حارة فيموت وأنتم ترونه.
وأدنى ذلك أن تبعثوه على الحرص وعلى عظم اللقم.
ولهذا ما قال الأعرابي حين قيل له: لم تبدأ بأكل اللحم الذي فوق الثريد قال: لأن اللحم ظاعن والثريد مقيم! قال أبو كعب: فربما نسي بعضنا فمد يده إلى القصعة وقد مد يده صاحبه إلى الماء فيقول له موسى: يدك يا ناسي! ولولا شيء لقلت لك: يا متغافل! قال: وأتانا بارزة.
ولو شاء إنسان أن يعد حبها لعده لتفرقه ولقلته.
قال: فنثروا عليها ليلة من ذلك مقدار نصف سكرة.
فوقعت ليلتئذ في قطعة وكنت إلى جنبه فسمع صوتها حين مضغتها فضرب يده على جنبي ثم قال: اجرش يا أبا كعب اجرش! قلت: ويلك! أما تتقي الله! كيف أجرش جزءاً لا يتجزأ. قصة ابن العقدى
كان ابن العقدى ربما استزار أصحابه إلى البستان.
وكنت لا أظنه ممن يحتمل قلبه ذلك على حال.
فسألت ذات يوم بعض زواره فقلت: احك لي أمرك.
قال: وتستر علي قلت: نعم ما دمت بالبصرة.
قال: يشتري لنا أرزاً بقشره ويحمله معه ليس معه شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز! فإذا صرنا إلى أرضه كلف أكاره أن يجشه في مجشة له ثم ذراه ثم غربله ثم جش الواش منه.
فإذا فرغ من الشراء والحمل ثم من الجش ثم من التذرية ثم من الإدارة والغربلة ثم من جش الواش ثم من تذريته ثم من إدارته وغربلته كلف الأكار أن يطحنه على ثوره وفي رحاه.
فإذا طحنه كلفه أن يغلي له الماء وأن يحتطب له.
ثم يكلفه العجن لأنه بالماء الحار أكثر نزلاً.
ثم كلف الأكار أن يخبزه.
وقبل ذلك ما قد كلفهم أن ينصبوا له الشصوص للسمك ويسكروا الدرياجة على صغار السمك لا يدخلوا في السواقي فيدخلوا أيديهم في حجرة الشلابي والرمان.
فإن أصبنا من السمك شيئاً جعله كباباً على نار الخبز تحت الطابق حتى لا يحتاج من الحطب إلى كثير.
فلا نزال منذ غدوة إلى الليل في كد وجوع وانتظار.
ثم لا يكون عشاؤنا إلا خبز أرز أسود غير منخول - بالشلابي.
ولو قدر على غير ذلك فعل.
قلت له: فلم لا يتخذ موضع مذار من بعض دقاق أرضه فيذري لكم الأرز ثم يكون الخيار في يده إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري.
قال: والله لئن سمع هذا وعرفه ليتكلفه.
الله الله فينا فإنا قوم مساكين! ولو قدرنا على شيء لم نحتمل هذا البلاء! حدثني المكي قال: بت عند إسماعيل بن غزوان.
وإنما بيتني عنده حين علم أني تعشيت عند مويس وحملت معي قربة نبيذ.
فلما مضى من الليل أكثره وركبني النوم جعلت فراشي البساط ومرفقتي يدي وليس في البيت إلا مصلى له ومرفقة ومخدة.
فأخذ المخدة فرمى بها إلي فأبيتها ورددتها عليه.
وأبى وأبيت.
فقال: سبحان الله! يكون أن تتوسد مرفقك وعندي فضل مخدة فأخذتها فوضعتها تحت خدي فمنعني من النوم إنكاري للموضع ويبس فراشي.
وظن أني قد نمت.
فجاء قليلاً قليلاً حتى سل المخدة من تحت رأسي.
فلما رأيته قد مضى بها ضحكت وقلت: قد كنت عن هذا غنياً! قال: إنما جئت لأسوي رأسك! قلت: إني لم أكلمك حتى وليت بها.
قال: كنت لهذا جئت فلما صارت المخدة في يدي نسيت ما جئت له! والنبيذ - ما علمت - والله يذهب بالحفظ أجمع! وحدثني الحزامي والمكي والعروضي قالوا: سمعنا إسماعيل يقول: أوليس قد أجمعوا على أن البخلاء في الجملة أعقل من الأسخياء في الجملة ها نحن أولاء عندك جماعة فينا من يزعم أنه سخي وفينا من يزعم أنه بخيل.
فانظر أي الفريقين أعقل هأنذا وسهل بن هارون وخاقان بن صبيح وجعفر بن سعيد والحزامي والعروضي وأبو يعقوب الخريمي فهل معك إلا أبو إسحاق وحدثني المكي قال: قلت لإسماعيل مرة: لم أر أحداً قط أنفق على الناس من ماله فلما احتاج إليهم آسوه.
قال: لو كان ما يصنعون لله رضاً وللحق موافقاً لما جمع الله لهم الغدر واللؤم من أقطار الأرض.
ولو كان هذا الإنفاق في حقه لما ابتلاهم الله - جل ذكره - من جميع خلقه.
حدثني تمام بن أبي نعيم قال: كان لنا جار وكان له عرس.
فجعل طعامه كله فالوذقا.
فقيل له: إن المؤنة تعظم قال: أحتمل ثقل الغرم بتعجيل الراحة لعن الله النساء! ما أشك أن من أطاعهن شر منهن.
وحديث سمعناه على وجه الدهر: زعموا أن رجلاً قد بلغ في البخل غايته وصار إماماً وأنه كان إذا صار في يده الدرهم خاطبه وناجاه وفداه واستنبطه.
وكان مما يقول له: كم من أرض قد قطعت! وكم من كيس قد فارقت! وكم من خامل رفعت! ومن رفيع قد أخملت! لك عندي ألا تعرى ولا تضحي! - ثم يلقيه في كيسه ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه! - وأنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه وأن أهله ألحوا عليه في شهوة وأكثروا عليه في إنفاق درهم فدافعهم ما أمكن ذلك.
ثم حمل درهماً فقط.
فبينا هو ذاهب إذ رأى حواء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه.
فقال في نفسه: أتلف شيئاً تبذل فيه النفس بأكلة أو شربة والله ما هذا إلا موعظة لي من الله! فرجع إلى أهله ورد الدرهم إلى كيسه - فكان أهله منه في بلاء.
وكانوا يتمون موته والخلاص بالموت أو الحياة.
فلما مات وظنوا أنهم قد استراحوا منه قدم ابنه فاستولى على ماله وداره.
ثم قال: ما كان أدم أبى فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام.
قالوا: كان يأتدم بجبنة عنده.
قال: أرونيها.
فإذا فيها حز كالجدول من أثر مسح اللقمة! قال: ما هذه الحفرة قالوا: كان لا يقطع الجبن وإنما كان يمسح على ظهره فيحفر كما ترى! قال: فبهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد! لو علمت ذلك ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع قال: أضعها من بعيد فأشير إليها باللقمة! ولا يعجبني هذا الحرف الأخير لأن الإفراط لا غاية له.
وإنما نحكي ما كان في الناس وما يجوز أن يكون فيهم أو حجة أو طريقة.
فأما مثل هذا الحرف فليس مما نذكره.
وأما سائر حديث هذا الرجل فإنه من البابة.
قال ابن جهانة الثقفية: عجبت ممن يمنع النبيذ طالبه لأن النبيذ إنما يطلب ليوم فصد أو يوم حجامة أو يوم زيارة زائر أو يوم أكل سمك طري أو يوم شربة دواء.
ولم نر أحداً طلبه وعنده نبيذ ولا ليدخره ويحتكره ولا لبيعه ويعتقد منه.
وهو شيء يحسن طلبه وتحسن هبته ويحسن موقعه.
وهو في الأصل كثير رخيص فما وجه منعه ما يمنعه عندي إلا من لاحظ له في أخلاق الكرام! وعلى أني لست أوجل - بما أهب منه - على نبيذي النقصان لأني إذا احتجت عن ندمائي بقدر ما أخرجت من نبيذي رجع إلى نبيذي على حاله وكنت قد تحمدت بما لا يضرني فمن ترك التحمد بما لا يضره كان من التحمد بما يضره أبعد.
فذكر ابن جهانة ماله من الكرم بهبة نبيذه ولم يذكر ما عليه من اللؤم بحجب ندمائه.
قال الأصمعي أو غيره: حمل بعض الناس مدينيا على برذون فأقامه على الارى.
فانتبه من نومه فوجده يعتلف.
ثم نام فانتبه فوجده يعتلف.
فصاح بغلامه: يا بن أم! بعه وإلا فهبه وإلا فرده وإلا فاذبحه! أنام ولا ينام! يذهب بحر مالي! ما أراد إلا استئصالي! قال أبو الحسن المدائني: كان بالمدائن تمار وكان بخيلاً.
وكان غلامه إذا دخل الحانوت يحتال فربما احتبس.
فاتهمه بأكل التمر فسأله يوماً فأنكر.
فدعا بقطنة بيضاء ثم قال: امضغها.
فمضغها.
فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة قال: هذا دأبك كل يوم وأنا لا أعلم! أخرج من داري! وكان عندنا رجل من بني أسد إذا صعد ابن الأكار إلى نخلة له ليلقط له رطباً ملأ فاه ماء.
فسخروا به وقالوا له: إنه يشربه ويأكل شيئاً على النخلة.
فإذا أراد أن ينزل بآل في يده ثم أمسكه في فيه! والرطب أهون على أولاد الأكرة وعلى أولاد غير الأكرة من أن يحتمل فيه أحد شطر هذا المكروه ولا بعضه.
قال: فكان بعدها يملأ فاه من ماء أصفر أو أحمر أو أخضر لكي لا يقدر على مثله في رءوس النخل! وحدثني المصري وكان جار الداردريشي وماله لا يحصى.
قال: فانتهر سائلاً ذات يوم وأنا عنده.
ثم وقف عليه آخر فانتهره إلا أن ذلك بغيظ وحنق.
قال: فأقبلت عليه فقلت له: ما أبغض إليك السؤال! قال: أجل عامة من ترى منهم أيسر مني.
قال: فقلت: ما أظنك أبغضتهم لهذا.
قال: كل هؤلاء لو قدروا على داري لهدموها وعلى حياتي لنزعوها! أنا لو طاوعتهم فأعطيتهم كما سألوني كنت قد صرت مثلهم منذ زمان! فكيف تظن بغضي يكون لمن أرادني على هذا وكان أخوه شريكه في كل شيء.
وكان في البخل مثله.
فوضع أخوه في يوم جمعة بين أيدينا ونحن على بابه طبق رطب يساوي بالبصرة دانقين.
فينا نحن نأكل إذ جاء أخوه فلم يسلم ولم يتكلم حتى دخل الدار.
فأنكرنا ذلك.
وكان يفرط في إظهار البشر ويجعل البشر وقاية دون ماله.
وكان يعلم أنه إن جمع بين المنع والكبر قتل.
قال: ولم نعرف علته ولم يعرفها أخوه.
فلما كان الجمعة الأخرى دعا أيضاً أخوه بطبق رطب.
فبينا نحن نأكل إذ خرج من الدار ولم يسلم ولم يقف.
فأنكرنا ذلك ولم ندر أيضاً ما قصته.
فلما أن كان في الجمعة الثالثة ورأى مثل ذلك كتب إلى أخيه: يا أخي! كانت الشركة بيني وبينك حين لم يكثر الولد ومع الكثرة يقع الاختلاف.
ولست آمن أن يخرج ولدي وولدك إلى مكروه.
وها هنا أموال باسمي ولك شطرها وأموال باسمك ولي شطرها وصامت في منزلي وصامت في منزلك لا نعرف فضل بعض ذلك على بعض.
وإن طرقنا أمر الله ما ركدت الحرب بين هؤلاء الفتية وطال الصخب بين هؤلاء النسوة.
فالرأي أن تتقدم اليوم فيما يحسم منهم هذا السبب.
فلما قرأ أخوه كتابه تعاظمه ذلك وهاله وقلب الرأي ظهراً لبطن فلم يزده التقليب إلا جهلاً.
فجمع ولده وغلظ عليهم وقال: عسى أن يكون أحد منكم قد أخطأ بكلمة واحدة أو يكون هذا البلاء من جرائر النساء.
فلما عرف براءة ساحة القوم تمشى إليه حافياً راجلاً فقال: ما يدعوك إلى القسمة والتمييز أدع صلحاء أهل المسجد الساعة حتى أشهدهم بأني وكيل لك في هذه الضياع وحول كل شيء في منزلي إلى منزلك وجرب ذلك مني الساعة.
فإن وجدتني أروغ وأعتل فدونك - فحاجتي الآن أن تخبرني بذنبي.
قال: مالك من ذنب وما من القسمة من بد.
فأقام عنده فلما طال عليه الأمر وبلغ منه الجهد قال له: حدثني عن وضعك أطباق الرطب وبسطك الحصر في السكك وإحضارك الماء البارد وجمعك الناس على بابي في كل جمعة! كأنك ظننت أنا كنا عن هذه المكرمة عمياً! إنك إذا أطعمتهم اليم البرني أطعمتهم غداً السكر وبعد غد الهلبات.
ثم يصير ذلك أيام الجمع في سائر أيام الأسبوع.
ثم يتحول الرطب إلى الغداء ثم يؤدي الغداء إلى العشاء.
ثم تصير إلى الكساء ثم الأجداء ثم الحملان ثم اصطناع الصنائع! والله إني لأرثي لبيوت الأموال لخراج المملكة من هذا فكيف بمال تاجر جمعه من الحبات والقراريط والدوانيق والأرباع والأنصاف قال: جعلت فداك! تريد ألا آكل رطبة أبداً فضلاً على غير ذلك فلا والله لا كلمتهم أبداً! قال: إياك أن تخطئ مرتين: مرة في إطماعهم فيك ومرة في اكتساب عداوتهم.
أخرج من هذا الأمر على حساب ما دخلت فيه وتسلم تسلم.
كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة.
وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس.
ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها.
وكان يعرف بالإمساك الشديد.
فقال: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة قال: كانت عجباً من العجب! فيقول: وتدري ما جنسها وتدري ما سنها فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن.
وتدري بأي شيء كنا نسمنها.
- فلا يزال في هذا والآخر يضحك ضحكاً نعرفه نحن ولا يعرفه أبو الهذيل.
وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدراً وأوسعهم خلقاً وأسهلهمسهولة.
فإن ذكروا دجاجة قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة فإن ذكروا بطة أو عناقاً أو جزوراً أو بقرة قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم قال: لا والله ولا تلك الدجاجة! وإن ذكروا عذوبة الشحم قال: عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج.
وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم.
وكانت مثلاً في كل شيء وتاريخاً في كل شيء! وأقبل مرة على محمد بن الجهم وأنا وأصحابنا عنده فقال: إني رجل منخرق الكفين لا أليق شيئاً.
ويدي هذه صناع في الكسب ولكنها في الإنفاق خرقاء! كم تظن من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس أبو عثمان يعلم ذلك! أسألك بالله يا أبا عثمان هل تعلم ذلك فقلت: يا أبا الهذيل ما نشك فيما تقول - فلم يرض باحتضاري هذا الكلام حتى وكان أبو سعيد المدائني إماماً في البخل عندنا بالبصرة.
وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم.
وكان شديد العقل شديد العارضة حاضر الحجة بعيد الروية.
وكنت أتعجب من تفسير أصحابنا لقول العرب في لؤم اللئيم الراضع: قال أصحابنا: كل لئيم بخيل وليس كل بخيل لئيماً لأن اسم اللئيم يقع على البخل وعلى قلة الشكر وعلى مهانة النفس وعلى أن له في ذلك عرفاً متقدماً.
قال أبو زيد: هو لئيم وملائم.
فاللئيم ما فسرت والملام الذي يقوم بعذر اللئيم.
فأما اللئيم الراضع فالذي لا يحلب في الإناء ويرضع الخلف مخافة أن يضيع من اللبن شيء.
قال ثوب بن شحمة العنبري في امرأته الهمدانية: وحديث لا مجة التي حدثتني تدع الإناء تشرباً للقادم القادمان: الخلفان المقدمان.
فلما بلغه ذلك عنها طلقها.
فلما طلقها قيل له: إن البخل إنما يعيب الرجال ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل قال: ليس ذلك بي.
أخاف أن تلد لي مثلها.
قال رافع بن هريم: .
.
.
.
.
.
.
.
.
تحلب قاعداً وتلمج أحياناً وقبعك حاضر يدعوا الله أن يجعله صاحب شاء ولا يجعله صاحب إبل وأن يرتضع من الخلف وإن كان معه إناء.
والعربي يماري على صاحبه فيقول: إن كنت كاذباً فاحتلبت قاعداً: أي أبدلك الله بكرم الإبل لؤم الغنم.
فكيف يتعجب من لؤم الراضع وصنع أبو سعيد المدائني أعظم من ذلك اصطبغ من دون خل وهو قائم حتى فني ولم يخرج منه قليلاً ولا كثيراً.
وكانت له حلقة يقعد فيها أصحاب الغنية والبخلاء الذين يتذاكرون الإصلاح.
فبلغهم أن أبا سعيد يأتي الحربية في كل يوم ليقتضي رجلاً هناك خمسة دراهم فضلت عليه وقالوا: هذا خطأ عظيم وتضييع كثير.
وإنما الحزم أن يتشدد في غير تضييع.
وصاحبنا هذا قد رجع على نفسه بضروب من البلاء.
فاجتمعوا عليه على طريق التفرغ له والاستفادة منه.
قالوا: نراك تصنع شيئاً لا نعرفه والخطأ منك أعظم منه من غيرك.
قد أشكل علينا هذا الأمر فأخبرنا عنه فقد ضاقت صدورنا به: خبرنا عن مضيك إلى الحربية لتقتضي خمسة دراهم فواحدة: أنا لا نأمن عليك انتقاض بدنك وقد خلا ما خلا من سنك وأن تعتل فتدع التقاضي الكثير بسبب القليل.
وثانية: أنك إن تنصب هذا النصب فلا بد لك من أن تزداد في العشاء إن كنت ممن يتعشى أو تتعشى إن وبعد فإنك تحتاج أن تشق وسط السوق وعليك ثيابك والحمولة تستقبلك.
فمن هاهنا نترة ومن هاهنا جذبة فإذا الثوب قد أودى.
ومن ذلك أن نعلك تنقب وترق وساق سراويلك تتسخ وتبلى ولعلك أن تعثر في نعلك فتقدها قداً ولعلك أن تهرتها هرتاً.
وبعد فاقتضاء القليل أدلى بك إلى هذا لو بلغت منه شيئاً.
وإنك أفضل إلا أنا نحب أنك تجاى عن الأمر بشيء فليس كلنا يثق لك بالصواب في كل شيء.
قال أبو سعيد: أما ما ذكرتم من انتفاض البدن فإن الذي أخاف على بدني من الدعة ومن قلة الحركة أكثر.
وما رأيت أصح أبداناً من الحمالين والطوافين.
والقوم قبلى إن يموتوا لم يكن لهم تلك عادة.
أو ليس يقول الناس: والله لفلان أصح من الجلاوزة - يعني اختلاف الجلاوزة في العدو -.
ولربما أقمت في المنزل لبعض الأمر فأكثر الصعود والنزول خوفاً من قلة الحركة.
وأما التشاغل بالبعيد عن القريب فإني لا أعرض للبعيد حتى أفرغ من القريب.
وأما ما ذكرتم من الزيادة في الطعام فقد أيقنت نفسي واطمأن قلبي على أنه ليس لنفسي عندي إلا ما لها وأنها إن حاسبتني أيام النصب حاسبتها أيام الراحة فستعلم حينئذ أين أيام الحربية من أيام ثقيف وأما ما ذكرتم من تلقى الحمولة ومن مزاحمة أهل السوق ومن النتر والجذب فأنا أقطع عرض وأما ما ذكرتم من شأن النعل والسراويل فإني من لدن خروجي من منزلي إلى أن أقرب من باب صاحبي فإنما نعلي في يدي وسروايلي في كمي! فإذا صرت إليه لبستهما! فإذا فصلت من عنده خلعتهما! فهما في ذلك اليوم أودع أبداناً وأحسن حالاً! بقي الآن لكم مما ذكرتم شيء قالوا: لا.
قال: فها هنا واحدة تفي بجميع ما ذكرتم.
قالوا: وما هي إذا علم القريب الدار ومن لي عليه ألوف الدنانير شدة مطالبتي للبعيد الدار ومن ليس لي عليه إلا الفلوس أتي بحقي ولم يطمع نفسه في مالي.
وهذا تدبير يجمع لي إلى رجوع مالي طول راحة بدني.
ثم أنا بالخيار في ترك الراحة لأني أقسمها على الأشغال حينئذ كيف شئت.
وأخرى أن هذا القليل لو لم يكن فضلة من كثير وموصلاً بدين لي مشهور لجاز أن أتجافى عنه.
فأما أن أدع شيئاً يطمع في فضول ما يبقي على الغرماء فهذا ما لا يجوز.
فقاموا وقالوا بأجمعهم: لا والله لا سألناك عن مشكلة! حدثني أحمد المكي أخو محمد المكي - وكان متصلاً بأبي سعيد - نسيت القنية ونسيت صنعة المال لأعاجيب أبي سعيد وحديثه قال أحمد: قلت له مرة: والله إنك لكثير المال وإنك لتعرف ما نجهل وإن قميصك وسخ فلم لا تأمر بغسله قال: فلو كنت قليل المال وأجهل ما تعرف كيف كان قولك لي إني قد فكرت في هذا منذ ستة أشهر فما وضح لي بعد الأمر فيه.
أقول مرة: الثوب إذا اتسخ أكل البدن كما يأكل الصدأ الحديد والثوب إذا ترادفه العرق وجف وتراكم عليه الوسخ ولبد أكل السلك وأحرق الغزل.
هذا مع نتن ريحه وقبح منظره.
وبعد فإني رجل آتي أبواب الغرماء وغلمان غرمائي جبابرة.
فما ظنك بهم إذا رأوني في أطمار وسخة وأسمال درنة وحال حداد جبهوا مرة وحجبوا مرة فيرجع ذلك علينا بمضرة.
من إصلاح المال أن ينفي عنه كل ما أعان على حبسه مع ما يدخل من الغيظ ويلقي من كان كذلك من المكروه.
فإذا اجتمعت هذه الخواطر هممت نغسلها فإذا همت به عارضني معارض يوهمني أنه أتاني من جهة الحزم ومن قبل العقل فقال: أول ذلك الغرم الذي يكون في الماء والصابون.
والجارية إذا ازدادت عناء ازدادت أكلاً.
والصابون نورة والنورة تأكل الثوب.
وإن انحزق لا يزال الثوب على خطر حتى يسلم إلى العصر والدق.
ثم إذا ألقي على الرسن فهو بعرض الجذبة والنترة والعلق.
ولابد من الجلوس يومئذ في البيت.
ومتى جلست في البيت فتحوا علينا أبواباً من النفقة وأبواباً من الشهوات.
والثياب لابد لها من دق.
فإن نحن دققناها في المنزل قطعناها.
وإن نحن أسلمناها إلى القصار فغرم على غرم.
وعلى أنه ربما أنزل بها من المكروه ما هو أشد.
وما جلست في المنزل قط إلا أرجف بي الغرماء وادعوا على الأمراض والأحداث.
وفي ذلك لهم فساد والتواء وطمع لم يكن عندهم.
فإذا أنا لبستها وقد ابيضت وحسنت وخفت وطابت تبينت عند ذلك وسخ جسدي وكثرة شعري وقد كان بعض ذلك موصولاً ببعض فعرفته فاستبان لي ما لم يكن يستبين واكترثت لما لم أكن اكترثت له فيصير ذلك مدعاة إلى دخول الحمام.
فإن دخلته فغرم ثقيل مع المخاطرة بالثياب.
ولي امرأة جميلة شابة.
فإذا رأتني قد أطليت وغسلت رأسي وبيضت ثوبي عارضتني بالتطيب وتلبس أحسن ثيابها! مع أمور كثيرة نسي بعضها أحمد وبعضها أنا.
وكان أبو سعيد هذا مع بخله أشد الناس نفساً وأحماهم أنفاً.
بلغ من أمره في ذلك ومن بلوغه فيه أنه أتى رجلاً من ثقيف يقتضيه ألف دينار وقد حل عليه المال.
فكان ربما أطال عنده الجلوس.
ويحضر عنده الغداء فيتغدى معه.
وهو في ذلك يقتضيه.
فلما طال عليه المطل قال له يوماً وهو على خوانه: إن لهذا المال زكاة مؤداة وقد علمنا أنا حين أخرجنا هذا المال من أيدينا أنه معرض للذهاب وللمنازعة الطويلة ولأن يقع في الميراث.
ثم رضينا منك بالريح اليسير بالذي ظنناه بك من حسن القضاء.
ولولا ذلك لم نرض بهذا المال.
وهذا المال إذا كان شرطه أن يرجع بعد سنة فرفهت عنك بحسن المطالبة شهراً أو شهرين ثم مكث عندي إلى أن أصبت له مثلك شهراً أو شهرين سحق فضله وخرج علينا فضل.
ومثلك يكتفي بالقليل.
وقد طال اقتضائي وطال تغافلك.
يقول هذا الكلام وهو في ذلك لا يقطع الأكل - فأقبل عليه رجل من ثقيف فعرض له بأنه لو أراد التقاضي محضاً لكان ذلك في المسجد ولم يكن في الموضع الذي يحضر فيه الغداء.
فقطع الأكل ثم نزا في وجهه الدم ونظر إليه نظر الجمل الصول ثم كاد يطير! ثم أقبل عليه فقال: لا أم لك! أنا إنما اصطبغت من دن خل حتى فني من حسن العقل.
وأحببت الغنى بفضل بغضي للفقر وأبغضت الفقر بفضل أنفتي من احتمال الذل.
تعرض لي - لا أم لك! - بأني أرغب في غدائه.
والله ما أكلت معه إلا ليستحي من حرمة المؤاكلة وليصير كرمه سبباً لتعجيل الحاجة.
ثم نهض بالصك وعليه طينته فاعترض بها الحائط حتى كسرها.
ثم تفل في الكتاب وحك بعضه ببعض.
ثم مزقه ورمى به.
ثم قال لكل من شهد المجلس: هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان اشهدوا جميعاً أني قد قبضت منه وأنه برئ من كل شيء أطالبه.
ثم نهض.
فلما صنع ما صنع أقبل الغريم على صاحبه فقال: ما دعاك إلى هذا الكلام ثم تقول لهذا الرجل على مائدتي! وتقدم بهذا الكلام على من لا تعرف كيف موقع الأمور منه وبعد فقد والله أردت مطله إلى أن أبيع الثمر ورجونا حلاوته.
فقد أحسنت إليه وأسأت إلينا وعجلت عليه ماله.
اذهب يا غلام فاضرب بذلك الثمر السوق فيعه بما بلغ! فأخذ ماله كملاً.
ثم ركب إليه فأبى أن يأخذه.
فلما كثر الأمر في ذلك قال: أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قال أنه عربي وأنا مولى.
فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال وإن لم تفعل فإني لا آخذه.
فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة حتى طلبوا إليه حتى أخذ المال.
وكان أبو سعيد ينهى خادمه أن تخرج الكساحة من الدار وأمرها أن تجمعها من دور السكان وتلقيها على كساحتهم.
فإذا كان في الحين جلس وجاءت الخادم ومعها زبيل فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً ثم فتشت واحداً واحداً.
فإن أصاب قطع دراهم وصرة فيها نفقة والدينار أو قطعة حلي - فسبيل ذلك معروف.
وأما ما وجد فيه من الصوف فكان وجهه أن يباع - إذا اجتمع - من أصحاب البراذع.
وكذلك قطع الأكسية.
وما كان من خرق الثياب فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات.
وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين.
وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج.
وما كان من نوى التمر فمن أصحاب الحشوف.
وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس.
وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين.
وما كان من القراطيس فللطراز.
وما كان من الصحف فلرءوس الجرار.
وما كان من قطع الخشب فللا كافين.
وما كان من قطع العظام فللوقود.
وما كان من قطع الخرق فللتنانير الجدد.
وما كان من إشكنج فهو مجموع للبناء ثم يحرك ويثار ويخلل حتى يجتمع قماشه.
ثم يعزل للتنور.
وما كان من قطع القار بيع من القيار.
وإذا بقي التراب خالصاً وأراد أن يضرب منه اللبن للبيع وللحاجة إليه لم يتكلف الماء ولكن يأمر جميع من في الدار ألا يتوضئوا ولا يغتسلوا إلا عليه.
فإذا ابتل ضربه لبناً! وكان يقول: من لم يتعرف الاقتصاد تعرفي فلا يتعرض له.
وذهب من ساكن له شيء كبعض ما يسرق من البيوت.
فقال لهم: اطرحوا الليلة تراباً فعسى أن يندم من أخذه فيلقيه في التراب.
ولا ينكر مجيئه إلى ذلك المكان لكثرة من يجيء لذلك.
فاتفق أن طرح ذلك الشيء المسروق في التراب - وكانوا يطرحونه على كناسته - فرآه قبل أن يراه المسروق منه.
فأخذ منه كراء الكساحة! فهذا حديث أبي سعيد! تمشى قوم إلى الأصمعي مع تاجر كان اشترى ثمرته بخسران كان ناله وسأله حسن النظر والحطيطة.
فقال الأصمعي: أسمعتم بالقسمة الضيزى هي والله ما تريدون شيخكم عليه! اشترى مني على أن يكون الخسران علي والربح له! هذا وأبيكم تجارة أبي العنبس! اذهبوا فاشتروا على طعام العراق على هذا الشرط! على أني والله ما أدري أصادق هو أم كاذب.
وها هنا واحدة وهي لكم دوني ولابد من أن أحتمل لكم إذ لم تحتملوا لي.
والله ما مشيتم معه إلا وأنتم توجبون حقه وتوجبون رفده.
لو كنت أوجب له مثل ما توجبون لقد كنت أغنيته عنكم.
وأنا لا أعرفه ولا يصريني بحق.
فهلموا نتوزع هذه الفضلة بيننا بالسوية.
هذا أحسن ممن احتمل حقاً لا يجب عليه في رضا من يجب ذلك عليه.
فقاموا ولم يعودوا.
فخرج إليه التاجر من حقه وأيس مما قبله.
حدثني جعفر ابن أخت واصل قال: قلت لأبي عيينة: قد أحسن الذي سأل امرأته عن اللحم فقالت: أكله السنور.
فوزن السنور ثم قال: هذا اللحم فأين السنور قال: كأنك تعرض بي! قال: قلت: إنك والله أهل ذلك: شيخ قد قارب المائة وعليه فاضلة وعياله قليل ويعطي الأموال على مذاكرة العلم والعلم لذته وصناعته.
ثم يرقي إلى جوف منزله! وأنت رجل لك في البستان ورجل في أصحاب الفسيل ورجل في السوق ورجل في الكلاء: تطلب من هذا وقر جص ومن هذا وقر آجر ومن هذا قطعة ساج.
ومن هذا هكذا! ما هذا الحرص وما هذا الكد وما هذا الشغل لو كنت شاباً بعيد الأمل كيف كنت تكون ولو كنت مديناً كثير العيال كيف كنت تكون وقد رأيتك فيما حدث تلبس الأطمار وتمشي حافياً نصف النهار - قال: ثم أجمجم.
بلغني أنك فقدت قطعة بطيخ فألححت في المسألة عنها فقيل لك: أكلها السنور.
فرميت بباقي القطعة قدام السنور لتمتحن صدقهم من كذبهم! فلما لم يأكله غرمتهم ثمن البطيخة كما هي! قالوا لك: كان الليل.
فإن لم تكن التي أكلته من سنانير الجيران وكان الذي أكله سنورنا هذا فإنك رميت إليه بالقطعة وهو شبعان منه.
فأنظرنا ولا تغرمنا نمتحنه في حال غير هذه.
فأبيت إلا إغرامهم! قال: ويلك! إني والله ما أصل إلى منعهم من الفساد إلا ببعض.
وقد قال زياد في خطبته: إني والله ما أصل منكم إلى أخذ الحق حتى أخوض الباطل إليكم خوضاً.
وأما ما لمتني عليه اتفاقاً فإنما ذهبت إلى قوله: لو أن في يدي فسيلة ثم قيل لي: إن القيامة تقوم الساع لبادرتها فغرستها.
وقد قال أبو الدرداء في وجعه الذي مات فيه: زوجوني فإني أكره أن ألقي الله قال مكرز: العجز فراش وطئ لا يستوطئه إلا الفشل الدثور.
وقال عبد الله بن وهب: حب الهويني يكسب النصب.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم والراحة فإنها غفلة.
وقال: لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما أركب.
وقال: تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب واركبوا الخيل نزوا.
وقال لعمرو بن معد يكرب حين شكا إليه الحقاء: كذبت عليك الظهائر.
وقال: احتفوا فإنكم لا تدرون متى تكو الحفلة.
وقال: إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة.
وقال لسعيد بن حاتم: احذر النعمة كحذرك من المعصية ولهي أخوفهما عليك عندي.
وقال: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من الشغل.
وقال أكثم بن صيفي: ما أحب أني مكفي كل أمر الدنيا.
قالوا: وإن أسمنت وألبنت قال: نعم أكره عادة العجز.
أفتراني أدع وصايا الأنبياء وقول الخلفاء وتأديب العرب وآخذ بقولك وتغدى محمد بن الأشعث عند يحيى بن خالد.
فتذاكروا الزيت وفضل ما بينه وبين السمن وفضل ما بين الأنفاق وزيت الماء.
فقال محمد: عندي زيت لم ير الناس مثله.
قال يحيى: لا تؤتي منه بشيء فدعا يحيى غلامه.
فقال: إذا دخلت الخزانة فانظر الجرة الرابعة عن يمينك إذا دخلت فجئنا منه بشيء.
قال يحيى: ما يعجبني السيد يعرف موضع زيته وزيتونه.
وقرب خباز أسد بن عبد الله إليه وهو على خراسان شواء قد أنضجه نضجاً وكان يعجبه ما رطب من الشواء.
فقال لخبازه: أتظن أن صنيعك يخفى علي إنك لست تبالغ في إنضاجه لتطييبه ولكن تستحلب جميع دسمه فتنتفع بذلك منه! فبلغت أخاه فقال: رب جهل خير من علم! وكان رجل يغشى طعام الجوهري وكان يتحرى وقته ولا يخطئ.
فإذا دخل والقوم يأكلون وحين وضع الخوان قال: لعن الله القدرية! من كان يستطيع أن يصرفني عن أكل الطعام وقد كان في اللوح المحفوظ أني سآكله فلما أكثر من ذلك قال له رياح: تعال بالعشي أو بالغداة.
فإن وجدت شيئاً فالعن القدرية والعن آباءهم وأمهاتهم! وجاء غلام إلى خالد بن صفوان بطبق خوخ - إما أن يكون هدية وإما أن غلامه جاء به من البستان - فلما وضعه بين يديه قال: لولا أني أعلم أنك قد أكلت منه لأطعمتك واحدة! وقال رمضان: كنت مع شيخ أهوازي في جعفرية.
وكنت في الذنب وكان في الصدر.
فلما جاء وقت الغداء أخرج من سلة له دجاجة وفرخاً واحداً مبرداً.
وأقبل يأكل ويتحدث ولا يعرض علي.
وليس في السفينة غيري وغيره! فرآني أنظر إليه مرة وإلى ما بين يديه مرة.
فتوهم أني أشتهيه واستبطئه.
فقال لي: لم تحدق النظر من كان عنده أكل مثلي ومن لك يكن عنده نظر مثلك!.
قال: ثم نظر إلي وأنا أنظر إليه فقال: يا هناه أنا رجل حسن الأكل لا آكل إلا طيب الطعام.
وأنا أخاف أن تكون عينك مالحة وعين مثلك سريعة.
فاصرف عني وجهك.
قال: فوثبت عليه فقبضت على لحيته بيدي اليسرى ثم تناولت الدجاجة بيدي اليمنى.
فما زلت أضرب بها رأسه حتى تقطعت في يدي! ثم تحول إلى مكاني فمسح وجهه ولحيته.
ثم أقبل علي فقال: قد أخرتك أن عينك مالحة وأنك ستصيبني بعين! قلت: وما شبه هذا من العين قال إنما العين مكروه يحدث.
فقد أنزلت بنا عينك أعظم المكروه! فضحكت ضحكاً ما ضحكت مثله.
وتكالمنا حتى كأنه لم يقل قبيحاً وحتى كأني لم أفرط عليه.
هذه ملتقطات أحاديث أصحابنا وأحاديثنا وما رأينا بعيوننا.
فأما أحاديث الأصمعي وأبي عبيدة وأبي الحسن فإني لم أجد منها ما يصلح لهذا الموضع إلا ما قد كتبته في هذا الكتاب وهي بضعة عشر حديثاً.
قالوا: كان للمغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته بعد الطعام.
ولم يكن أحد يمسه إذ كان هو لا يمسه! فأقدم عليه أعرابي يوماً ولم يعرف سيرة أصحابنا فيه فلم يرض بأكل لحمه حتى تعرق عظمه.
فقال له المغيرة: يا هذا! تطالب عظام هذا الجدي بذحل هل نطحتك أمه وكان الأصمعي يقول: إنما قال: يا هذا! تطالب عظام هذا البائس بذحل هل نطحتك أمه.
قال: وكان على شرطته عبد الرحمن بن طارق فقال لرجل من الشرط: إن أقدمت على جدي الأمير أسقطت عنك نوبة سنة.
فبلغه ذلك فشكاه إلى الحجاج فعزله وولي مكانه زياد بن جديد.
فكان أثقل عليه من عبد الرحمن.
ولم يقدر على عزله إذ كان من قبل الحجاج.
فكان المغيرة إذا خطب قال: يا أهل الكوفة! من بغاكم الغوائل وسعى بكم إلى أميركم فلعنه الله ولعن أمه العوراء! وكانت أم زياد عوراء.
فكان الناس يقولون: ما رأينا تعريضاَ قط أطيب من تعريضه!.
قالوا: وكان لزياد الحارثي جدي لا يمسه ولا يمسه أحد! فعشي في شهر رمضان قوماً فيهم أشعب.
فعرض أشعب للجدي من بينهم.
فقال زياد: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم قالوا: لا.
قال: فليصل بهم أشعب.
فقال أشعب: أو غير هذا - أصلح الله الأمير - قال: وما هو قال: أحلف بالمحرجات ألا آكل لحم جدي أبداً! قالوا: دعا عبد الملك بن قيس الذئبي رجلاً من أشراف أهل البصرة.
وكان عبد الملك بخيلاً على الطعام جواداً بالدراهم.
فاستصحب الرجل ساكناً.
فلما رآه عبد الملك ضاق به ذرعاً.
فأقبل عليه فقال له: ألف درهم خير لك من احتباسك علينا! واحتمل غرم ألف درهم ولم يحتمل أكل رغيف! وتناول أعرابي من بين يدي سليمان بن عبد الملك دجاجة فقال له: يكفيك ما بين يديك وما يليك.
قال الأعرابي: ومنها شيء حمى قال: فخذها لا بورك لك فيها! قال: وكان معاوية تعجبه القبة.
وتغدى معه ذات يوم صعصعة بن صوحان فتناولها صعصعة من بين يدي معاوية.
قال معاوية: إنك لبعيد النجعة! قال صعصعة: من أدب انتجع! وقال: دخل هشام بن عبد الملك حائطاً له فيه فاكهة وأشجار وثمار ومعه أصحابه.
فجعلوا يأكلون ويدعون بالبركة! فقال هشام: يا غلام! اقلع هذا واغرس مكانه الزيتون! قال: وكان المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي يأكل تمراً هو وأصحابه.
فانطفأ السراج.
وكانوا يلقون النوى في طست.
فسمع صوت نواتين فقال: من هذا الذي يلعب بكعبين وقالوا: باع حويطب بن عبد العزى داراً من معاوية بخمسة وأربعين ألف دينار.
فقيل له: أصبحت كثير المال.
قال: وما منفعة خمسة وأربعين ألفاً مع ستة من العيال وقالوا: سأل خالد بن صفوان رجل فأعطاه درهماً فاستقله السائل فقال: يا أحمق! إن الدرهم عشر العشرة وإن العشرة عشر المائة وإن المائة عشر الألف وإن الألف عشر العشرة الآلاف.
أما ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دية مسلم! قالوا: كان بلال بن أبي بردة قد خاف الجذام وهو والي البصرة.
فوصفوا له الاستنقاع في السمن.
وكان يفطر الناس في شهر رمضان.
فكانوا يجلسون حلقاً وتوضع لهم الموائد.
فإذا أقام المؤذن نهض بلال إلى الصلاة ويستحي الآخرون.
فإذا قاموا إلى الصلاة جاء الخبازون فرفعوا الطعام! قال: واحتقن عمر بن يزيد الأسدي بحقنة فيها أدهان.
فلما أدهان.
فلما حركته بطنه كره أن يأتي الحلاء فتذهب تلك الأدهان.
فكان يجلس في الطست ويقول: صفوا هذا فإنه يصلح للسراج! قال: وخبرنا جار له قال: رأيته يتخلل من الطعام بخلال واحد شهراً كلما تغدى حذف من وقالوا: كان ذراع الذراع مع خالد بن صفوان.
فوضعوا بين يديه دجاجة وبين يديه شيء من زيتون.
فجعل يلحظ الدجاجة.
فقال: كأنك تهم بها! قال: ومن يمنعني قال: إذا أصير أنا وأنت في مالي سواء! قال: ومد يده أبو الأشهب إلى شيء بين يدي نميلة بن مرة السعدي فقال: إذا أفردت بشيء فلا تعترض لغيره.
قالوا: ومات وعليه للدقاق وحده ثمانون ألف درهم لكثرة طعامه! وقالوا: كان الحكم بن أيوب الثقفي عاملاً للحجاج على البصرة.
واستعمل على العرق جرير بن بيهس المازني ولقب جرير العطرق.
فخرج الحكم يتنزه وهو باليمامة.
فدعا العطرق إلى غدائه.
فكل معه فتناول دراجة كانت بين يديه.
فعزله وولي مكانه نويرة المازني.
فقال نويرة وهو ابن عم العطرق: قد كان في العرق صيد لو قنعت به فيه غنى لك عن دراجة الحكم وفي عوارض لا تنفك تأكلها لو كان يشفيك لحم الجزر من قرم! وفي وطاب مملاة مثممة فيها الصريح الذي يشفي من القرم ولما ولي مكانه نويرة بلغه أنه ابن عم له فعزله.
فقال نويرة: ولا ساق سراق العراقة صالح بني ولا كلفت ذنب العطرق وتناول رجل من قدام أمير كان لنا ضخم بيضة فقال: خذها فإنها بيضة العقر.
فلم يزل محجوباً حتى مات.
وأتي ضيعة له يتنزه إليها ومعه خمسة رجال من خاصته وقد حملوا معه طعام خمسمائة وثقل عليه أن يأكلوا معه واشتد جوعه فجلس على مشارة بقل.
فأقبل ينتزع الفجلة فيطوي جزرتها بعرقها ثم يأكلها من غير أن تغسل من كلب الجوع ويقول لواحد منهم كان أقرب الخمسة إليه مجلساً: لو ذهب هؤلاء الثقلاء لقد أكلنا! قالوا: وأكل عبد الرحمن بن أبي بكرة على خوان معاوية فرأى لقم عبد الرحمن.
فلما كان بالعشي وراح إليه أبو بكرة قال: ما فعل ابنك التلقامة قال: اعتل.
قال: مثله لا يعدم العلة! وأكل أعرابي مع أبي الأسود الدؤلي فرأى له لقماً منكراً وهاله ما يصنع.
قال له: ما اسمك قال لقمان.
قال: صدق أهلك أنت لقمان! قالوا: وكان له دكان لا يسع إلا مقعده وطبيقاً يوضع بين يديه وجعله مرتفعاً ولم يجعل له عتباً كي لا يرتقي إليه أحد.
قالوا: فكان أعرابي يتحين وقته ويأتيه على فرس فيصير كأنه معه على الدكان.
فأخذ دبة وجعل فيها حصى واتكأ عليها.
فإذا رأى الأعرابي قد أقبل أراه كأنه يحول متكأه.
فإذا قعقعت الدبة بالحصى نفر الفرس.
قالوا: فلم يزل الأعرابي يدينه ويقعقع هو به حتى نفر منه فصرعه.
فكان لا يعود بعد ذلك إليه. رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي إلى الثقفي
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن جلوسك إلى الأصمعي وعجبك بسهل بن هارون واسترجاحك إسماعيل بن غزوان وطعمك على مويس بن عمران وخلطتك بابن مشارك واختلافك إلى ابن التوأم وإكثارك من ذكر المال وإصلاحه والقيام عليه واصطناعه وإطنابك في وصف النرويج والتثمير وحسن التعهد والتوفير - دليل على خبئ سوء وشاهد على عيب وإدبار بعد أن كنت تستثقل ذكرهم وتستشنع فعلهم وتتعجب من مذهبهم وتسرف في ذمهم.
وليس يلهج بذكر الجمع إلا من قد عزم على الجمع ولا يأنس بالبخلاء إلا المستوحش من وفي تحفظك قول سهل بن هارون: " في الاستعداد في حال المهلة وفي الأخذ بالثقة وأن أقبح التفريط ما جاء مع طول المدة وأن الحزم كل الحزم والصواب كل الصواب أن يستظهر على الحدثان وأن يجعل ما فضل عن قوام الأبدان ردءاً دون صروف الزمان وأنا لا نسب إلى الحكمة حتى نحوط أصل النعمة بأن نجعل دون فضولها جنة " - شاهد على عجبك بمذهبه وبرهان على ميلك إلى سبيله.
وفي استحسانك رواية الأصمعي في " أن أكثر أهل النار النساء والفقراء وأن أكثر أهل الجنة البله والأغنياء وأن أرباب الدثور هم الذين ذهبوا بالأجور " - برهان على صحة حكمنا عليك ودليل على صواب رأينا فيك.
وفي تفضيلك كلام ابن غزوان حين قال: " تنعمتم بالطعام الطيب وبالثياب الفاخرة وبالشراب الرقيق وبالغناء المطرب وتنعمنا بعز الثروة وبصواب النظر في العاقبة وبكثرة المال والأمن من سوء الحال ومن ذل الرغبة إلى الرجال والعجز عن مصلحة العيال - فتلك لذتكم وهذه لذتنا.
وهذا رأينا في التسلم من الذم وذاك رأيهم في التعرض للحمد.
وإنما ينتفع بالحمد السليم الفارغ البال ويسر باللذات الصحيح الصادق الحس.
فأما الفقير فما والطعام الذي آثرتموه يعود رجيعاً والشراب يصير بولاً والبناء يعود نقضاً.
والغناء ريح هابة ومسقط للمروءة وسخافة تفسد ورنة تسير.
فلذتكم فيما حوى لكم الفقر ونقض المروءة ولذتنا فيما حوى لنا الغنى وبنى المروءة.
فنحن في بناء وأنتم في هدم ونحن في إبرام وأنتم في نقض ونحن في التماس العز الدائم مع فوت بعض اللذة وأنتم في التعرض للذل الدائم مع فوت كل مروءة ".
وقد فهمنا معنى حكايتك وما لهجت به من روايتك.
والدليل على انتقاض طباعك وإدباز أمرك استحسانك ضد ما كنت تستحسن وعشقك لما لم تزل تمقت.
فبعداً وسحقاً! ولا يبعد الله إلا من ظلم! والشاعر أبصر بكم حيث يقول: فإن سمعت بهلك للبخيل فقل: بعداً وسحقاً له من هالك مودى! تراثه جنة للوارثين إذا أودى وجثمانه للتراب والدود وقال آخر: تبلى محاسن وجهه في قبره والمال بين عدوه مقسوم والحمد لله الذي لم يمتني حتى أرانيك وكيلاً في مالك وأجيراً لوارثك.
وهل تزيد حال من أنفق جميع ماله ورأى المكروه في عياله وظهر فقره وشمت به عدوه على أكثر من انصراف المؤنسين عنه وعلى بغض عياله وعلى خشونة الملبس وخشونة المأكل وهذا كله مجتمع في مسك البخيل ومصبوب على هامة الشحيح ومعجل للئيم وملازم للمنوع ألا إن المنفق قد ربح المحمدة وتمتع بالنعمة ولم يعطل المقدرة ووفى كل خصلة من هذه حقها ووفر عليها نصيبها والممسك معذب بحصر نفسه وبالكد لغيره مع لزوم الحجة وسقوط الهمة والتعرض للذم والإهانة ومع تحكيم المرة السوداء في نفسه وتسلطيها على عرضه وتمكينها من عيشه وسرور قلبه.
ولقد سرى إليك عرق ولقد دخل أعراقك جور ولقد عمل فيها قادح ولقد غالها غول وما هذا المذهب من أخلاق صميم ثقيف ولا من شيم أعرقت فيها قريش.
ولقد عرض إقراف ولقد أفسدتك هجنة.
ولقد قال معاوية: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً فهو دخيل ومن لم يكن من آل الزبير شجاعاً فهو لزيق ومن لم يكن من بني المغيرة تياهاً فهو سنيد.
وقال سلم بن قتيبة: إذا رأيت الثقفي يعز من غير طعام ويكسب لغير إنفاق فبهرجه ثم بهرجه.
وقال بلال بن أبي بردة: لولا شباب ثقيف وسفهاؤهم ما كان لأهل البصرة مال.
إن الله جواد لا يبخل وصدوق لا يكذب ووفي لا يغدر وحليم لا يعجل وعدل لا يظلم.
وقد أمرنا بالجود ونهانا عن البخل وأمرنا بالصدق ونهانا عن الكذب وأمرنا بالحلم ونهانا عن العجلة وأمرنا بالعدل ونهانا عن الظلم وأمرنا بالوفاء ونهانا عن الغدر.
فلم يأمرنا إلا بما اختار لنفسه ولم يزجرنا إلا عما لم يرضه لنفسه.
وقد قالوا بأجمعهم: إن الله أجود الأجودين وأمجد الأمجدين كما قالوا: أرحم الرحمين وأحسن الخالقين.
وقالوا في التأديب لسائليهم والتعليم لأجوادهم: لا تجاودوا الله فإن الله - جل ذكره - أجود وأمجد.
وذكر نفسه - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فقال: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} و {ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
وقال: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يضع درهماً على درهم ولا لبنة على لبنة.
وملك جزيرة العرب فقبض الصدقات وجبيت له الأموال ما بين غدران العراق إلى شحر عمان إلى أقصى مخاليف اليمن.
ثم توفي وعليه دين ودرعه مرهونة.
ولم يسأل حاجة قط فقال: لا.
وكان إذا سئل أعطى وإذا وعد أو أطمع كان وعده كالعيان وإطماعه كالإنجاز.
ومدحته الشعراء بالجود وذكرته الخطباء بالسماح.
ولقد كان يهب للرجل الواحد الضاجعة من الشاء والعرج من الإبل - وكان أكثر ما يهب الملك من العرب مائة بعير فيقال: وهب هنيدة.
وإنما يقال ذلك إذا أريد بالقول غاية المدح - ولقد وهب لرجل ألف بعير.
فلما رآها تزدحم وفخرت هاشم على سائر قريش فقالوا: نحن أطعم الطعام وأضرب للهام.
وذكرها بعض العلماء فقالوا: أجواد أمجاد ذوو السنة حداد.
وأجمعت الأمم كلها بخيلها وسخيها وممزوجها على ذم البخل وحمد الجود كما أجمعوا على ذم الكذب وحمد الصدق.
وقالوا: أفضل الجود الجود بالمجهود.
وحتى قالوا في جهد المقل وفيمن أخرج الجهد وأعطى الكل.
وحتى جعلوا لمن جاد بنفسه فضيلة على من جاد بماله فقال الفرزدق: على ساعة لو كان في القوم حاتم على جوده ضنت به نفس حاتم ولم يكن الفرزدق ليضرب المثل في هذا الموضع بكعب بن مامة وقد جاد بحوبائه عند المصافنة.
فما رأينا عربياً سفه حلم حاتم لجوده بجميع ماله ولا رأينا أحداً منهم سفه حلم كعب على جوده بنفسه بل جعلوا ذلك من كعب لإياد مفخراً.
وجعلوا ذلك من حاتم طيئ مأثرة لقحطان على عدنان ثم للعرب على العجم ثم لسكان جزيرة العرب ولأهل تلك البرية على سائر الجزائر والترب.
فمن أراد أن يخالف ما وصف اله - جل ذكره - به نفسه وما منح من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وما فطر على تفضيله العرب قاطبة والأمم كافة لم يكن عندنا فيه إلا إكفاره واستسقاطه.
ولم نر الأمة أبغضت جواداً قط ولا حقرته بل أحبته وأعظمته بل أحبت عقبه وأعظمت من أجله رهطه.
ولا وجدناهم أبغضوا جواداً لمجاوزته حد الجود إلى السرف ولا حقرته.
بل وجدناهم يتعلمون مناقبه ويتدارسون محاسنه.
وحتى أضافوا إليه من نوادر الجميل ما لم يفعله ونحلوه من غرائب الكرم ما لم يكن يبلغه.
ولذلك زعموا أن الثناء في الدنيا يضاعف كما تضاعف الحسنات في الآخرة.
نعم وحتى أضافوا إليه كل مديح شارد وكل معروف مجهول الصاحب.
ثم وجدنا هؤلاء بأعيانهم للبخيل على ضد هذه الصفة وعلى خلاف هذا المذهب: وجدناهم يبغضونه مرة ويحقرونه مرة ويبغضون بفضل بغضه ولده ويحتقرون بفضل احتقارهم له رهطه ويضيفون إليه من نوادر اللؤم ما لم يبلغه ومن غرائب البخل ما لم يفعله.
وحتى ضاعفوا عليه من سوء الثناء بقدر ما ضاعفوا للجواد من حسن الثناء.
وعلى أنا لا نجد الجوائح إلى أموال الأسخياء أسرع منها إلى أموال البخلاء ولا رأينا عدد من افتقر من البخلاء أقل.
والبخيل عند الناس ليس هو الذي يبخل على نفسه فقط فقد يستحق عندهم اسم البخيل ويستوجب الذم من لا يدع لنفسه هوى إلا ركبه ولا حاجة إلا قضاها ولا شهوة إلا ركبها وبلغ فيها غايته.
وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهداً في كل ما أوجب الشكر ونوه وقد يعلق البخيل على نفسه من المؤن ويلزمها من الكلف ويتخذ من الجواري والخدم ومن الدواب والحشم ومن الآنية العجيبة ومن البزة الفاخرة.
والشارة الحسنة ما يربى على نفقة السخي المثري ويضعف على جود الجواد الكريم.
فيذهب ماله وهو مذموم ويتغير حاله وهو ملوم.
وربما غلب عليه حب القيان واستهتر بالخصيان.
وربما أفرط في حب الصيد واستولى عليه حب المراكب.
وربما كان إتلافه في العرس والخرس والوليمة وإسرافه في الإعذار وفي العقيقة والوكيرة.
وربما ذهبت أمواله في الوضائع والودائع.
وربما كان شديد البخل شديد الحب للذكر ويكون بخله أوشج ولؤمه أقبح فينفق أمواله ويتلف خزائنه ولم يخرج كفافاً ولم ينج سليماً.
كأنك لم تر بخيلاً مخدوعاً وبخيلاً مضعوفاً وبخيلاً مضياعاً وبخيلاً نفاجاً وبخيلاً ذهب ماله في البناء وبخيلاً ذهب ماله في الكيمياء وبخيلاً أنفق ماله في طمع كاذب وعلى أمل خائب وفي طلب الولايات والدخول في القبالات وكانت فتنته بما يؤمل من الإمرة فوق فتنته بما قد حواه من الذهب والفضة.
قد رأيناه ينفق على مائدته وفاكهته ألف درهم في كل يوم وعنده في كل يوم عرس ولأن يطعن طاعن في الإسلام أهون عليه من أن يطعن طاعن في الرغيف الثاني ولشق عصا الدين وإنما صارت الآفات إلى أموال البخلاء أسرع والجوائح عليهم أكلب لأنهم أقل توكلاً وأسوأ بالله ظناً.
والجواد إما أن يكون متوكلاً وإما أن يكون أحسن بالله ظناً.
وهو على كل حال بالمتوكل أشبه وإلى ما أشبهه أنزع.
وكيفما دار أمره ورجعت الحال به فليس ممن يتكل على حزمه ويلجأ إلى كيسه ويرجع إلى جودة احتياطه وشدة احتراسه.
واعتلال البخيل بالحدثان وسوء الظن بتقلب الزمان إنما هو كناية عن سوء الظن بخالق الحدثان وبالذي يحدث الأزمان وأهل الزمان.
وهل تجري الأحداث إلا على تقدير المحدث لها وهل تختلف الأزمنة إلا على تصريف من دبرها أولسنا وإن جهلنا أسبابها فقد أيقنا بأنها تجري إلى غاياتها والدليل على أنه ليس بهم خوف الفقر وأن الجمع والمنع إما أن يكون عادة منهم أو طبيعة فيهم أنك قد تجد الملك بخيلاً ومملكته أوسع وخرجه أدر وعدوه أسكن.
وتجد أحزم منه جواداً وإن كانت مملكته أضيق وخرجه أقل وعدوه أشد حركة.
وقد علمنا أن الزنج أقصر الناس مرة وروية وأذهلهم عن معرفة العاقبة.
فلو كان سخاؤهم إنما هو لكلال حدهم وتكون الروم أبخل من الصقالبة وكان ينبغي في الرجال في الجملة وكان ينبغي أن يكون أقل البخلاء عقلاً أعقل من أشد الأجواد عقلاً وكان ينبغي للكلب - وهو قالوا: " هو أسخى من لا فظة " و " الأم من كلب على جيفة " و " الأم من كلب على عرق ".
وقالوا: " أجع كلبك يتبعك " و " نعم كلب في بؤس أهله " ونشهد أن محمداً عبده ورسوله " سمن كلبك يأكلك " و " أحرص من كلب على عقي صبي " و " أجوع من كلبة حومل " و " لهو أبذأ من كلب " " حش فلان من خرء الكلب " و " اخسأ! " كما يقال للكلب و " كالكلب في الآرى: لا هو يعتلف ولا هو يترك الدابة تعتلف ".
وقال الشاعر: سرت ما سرت من ليلها ثم عرست على رجل بالعرج ألأم من كلب وقال الله جل ذكره: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}.
وكان ينبغي في هذا القياس أن يكون المراوزة أعقل البرية وأهل خراسان أدرى البرية.
ونحن لا نجد الجواد يفر من اسم السرف إلى الجود كما نجد البخيل يفر من اسم البخل إلى الاقتصاد.
ونجد الشجاع يفر من اسم المنهزم والمستحي يفر من اسم الخجل.
ولو قيل لخطيب ثابت الجنان: وقاح لجزع - فلو لم يكن من فضيلة الجود إلا أن جميع المتجاوزين لحدود أصناف الخير يكرهون اسم تلك الفضلة - إلا الجواد لقد كان في ذلك ما يبين قدره ويظهر فضله.
المال فاتن والنفس راغبة والأموال ممنوعة وهي على ما منعت حريصة.
وللنفوس في المكاثرة علة معروفة لأن من لا فكرة له ولا روية موكل بتعظيم ذي الثروة وإن لم تكن منه منالة.
وقد قال الأول: وزادها كلفاً بالحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا وفي بعض كتب الفرس: كل عزيز تحت القدرة فهو ليل.
وقالت معاذة العدوية: كل مقدور عليه فمقلي أو محقور.
ولو كانوا لأولادهم يجمعون ولهم يكدون ومن أجلهم يحرصون لجعلوا لهم كثيراً مما يطلبون ولتركوا محاسبتهم في كثير مما يشتهون.
وهذا بعض ما بغض بعض المورثين إلى الوارثين وزهد الأخلاف في طول عمر الأسلاف.
ولو كانوا لأولادهم يمهدون ولهم يجمعون لما جمع الخصيان الأموال ولما كنز الرهبان الكنوز ولاستراح العاقر من ذل الرغبة ولسلم العقيم من كد الحرص.
وكيف ونحن نجده بعد أن يموت ابنه الذي كان يعتل به والذي من أجله كان يجمع على حاله في الطلب والحرص وعلى مثل ما كان عليه من الجمع والمنع.
والعامة لم تقصر في الطلب والحكرة والبخلاء لم يحدوا شيئاً من جهدهم ولا أعفوا بعد قدرتهم ولا قصروا في شيء من الحرص والحصر لأنهم في دار قلعة وبعرض نقلة.
حتى لو فالبخيل مجتهد والعامي غير مقصر.
فمن لم يستعن على ما وصفنا بطبيعة قوية وبشهوة شديدة وبنظر شاف كان إما عامياً وإما بخيلاً شقياً - ففيم اعتلالهم بأولادهم واحتجاجهم بخوف التلون من أزمنتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوافد كذب عنده كذبة وكان جواداً: لولا خصلة ومقك الله عليها لشردت بك من وافد قوم.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل قال: ومن هم قال: بنو مدلج.
قال: يمنعني من ذاك قراهم الضيف وصلتهم الرحم.
وقال لهم أيضاً: إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا.
وقال للأنصار: من سيدكم قالوا: الحر بن قيس على أنه يزن فينا ببخل فقال: وأي داء أدوأ من البخل ثم جعله من أدوإ الداء.
وقال للأنصار: أما والله ما علمتكم إلا لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.
وقال: كفى بالمرء حرصاً ركوبه البحر.
وقال: لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى ثالثاً ولا يشبع ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
وقال: السخاء من الحياء والحياء من الإيمان.
وقال: إن الله جواد يحب الجود.
وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
وقال: لا توكي فيوكي عليك.
وقال: لا تحص فيحصى عليك.
وقالوا: لا ينفعك من زاد ما تبقى.
ولم يسم الذهب والفضة بالحجرين إلا وهو يريد أن يضع من أقدارهما ومن فتنة الناس بهما.
وقال لقيس بن عاصم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت وما لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت.
وما سوى ذلك فللوارث.
وقال النمر بن تولب: وحثت على جمع ومنع ونفسها لها في صروف الدهر حق كذوب وكائن رأينا من كريم مرزإ أخي ثقة طلق اليدين وهوب شهدت وفاتوني.
وكنت حبستني فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي أعاذل إن يصبح صداي بقفرة بعيداً نآني صاحبي وقريبي ترى أن ما أبقيت لم أك ربه وأن الذي أمضيت كان نصيبي وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب في رعيها ودءوب وذي وغدا رب سواه يسوقها وبدل أحجار وجال قليب وقال أيضاً: قامت تباكي أن سبأت لفتية زقاً وخابية بعود مقطع وقريت في مقري قلائص أربعاً وقريت بعد قرى قلائص أربع أتبكيا من كل شيء هين سفه بكاء العين ما لم تدمع لا تطرديهم عن فراشي إنه لابد يوماً أن سيخلو مضجعي هلا سألت بعادياء وبيته والخيل والخمر التي لم تمنع وقال الحارث بن حلزة: بينا الفتى يسعى ويسعى له تاح له من أمره خالج يترك ما رقح من عيشه يعبث فيه همج هامج لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج وقال الهذلي: إن الكرام مناهبو نعم المجد كلهم فناهب أخلف وأتلف كل شي ء ذرعته الريح ذاهب وقالت امرأة: أنت وهبت الفتية السلاهب وإبلاً يحار فيها الحالب وغنماً مثل الجراد الهارب متاع أيام وكل ذاهب وقال تميم بن مقبل: وقال الخطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وجاء في الأثر: إن أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة.
وفي المثل: اصنع الخير ولو إلى كلب: وقال في الحث على القليل فضلاً على الكثير: قال الله جل ذكره: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وقالت عائشة في حبة عنب: إن فيها لمثاقيل ذر.
ولذلك قالوا في المثل: من حقر حرم.
وقال سلم بن قتيبة: يستحي أحدهم من تقريب القليل من الطعام ويأبى أعظم منه.
وقال: جهد المرء أكثر من عفوه.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهد المقل على عفو المكثر وإن كان مبلغ جهده قليلاً ومبلغ عفو المكثر كثيراً.
وقالوا: لا يمنعك من معروف صغره.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة.
وقال: لا تحقروا اللقمة فإنها تعود كالجبل العظيم لقول الله جل ذكره: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
وقال: لا تردوه ولو بصلة حبل.
وقالت العرب: أتاكم أخوكم يستتمكم فأتموا له.
وقالوا: مانع الإتمام ألوم.
وقالوا: البخيل إن سأل ألحف وإن سئل سوف.
وقالوا: إن سئل جحد وإن أعطى حقد.
وقالوا: يرد قبل أن يسمع ويغضب قبل أن يفهم.
وقالوا: البخيل إذا سئل ارتز وإذا سئل الجواد اهتز.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينادي كل يوم مناديان من السماء: يقول أحدهما: اللهم عجل لمنفق خلفاً ويقول الآخر: اللهم عجل لممسك تلفاً ).
وقالوا: شر الثلاثة المليم يمنع دره ودر غيره.
وقال الله جل ذكره: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.
وقالوا في المثل - إن ألجأك الدهر إلى بخيل: شر ما ألجأك إلى مخة عرقوب.
وقال: النبي صلى الله عليه وسلم: ( قل العدل وأعط الفضل ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنهاكم عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات ).
وقال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
وقال: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقالوا في الصبر على النائبة وفي عاقبة الصبر: عند الصباح يحمد القوم السري.
وقالوا: الغمرات ثم ينجلين.
وقال الخريمي: ودون الندى في كل قلب ثنية بها مصعد حزن ومنحدر سهل وود الفتى في كل نيل ينيله - إذا ما انقضى - لو أن نائله جزل وقالوا: خير الناس خير الناس للناس وشر الناس شر الناس للناس.
وقالوا: خير مالك ما نفعك.
وقالوا عجباً لفرط الكبرة مع شباب الرغبة! كلنا يأمل مداً في الأجل والمنايا هي آفات الأمل وقال عبيد الله بن عكراش: زمن خون ووارث شفون وكاسب زون.
فلا تأمن الخون وكن وارث الشفون.
وقال: يهرم ابن آدم ويشب معه خصلتان: الحرص والأمل.
وكانوا يعيبون من يأكل وحده وقالوا: ما أكل ابن عمر وحده قط.
وقالوا: ما أكل الحسن وحده قط.
وسمع مجاشع الربعي قولهم: الشحيح أعذر من الظالم فقال: أخزى الله أمرين خيرهما الشح.
وقال بكر بن عبد الله المزني: لو كان هذا المسجد مفعماً بالرجال ثم قيل لي: من خيرهم لقلت: خيرهم لهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بشراركم قالوا: بلى يا رسول الله
قال: من نزل وحده ومنع رفده وجلد عبده ).
وقالت امرأة عند جنازة رجل: أما والله ما كان مالك لبطنك ولا أمرك لعرسك.
فلما بلغت الرسالة ابن التوأم كره أن يجيب أبا العاص لما في ذلك من المناقشة والمباينة وخاف أن يترقى الأمر إلى أكثر من ذلك.
فكتب هذه وبعث بها إلى الثقفي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني ما كان من ذكر أبي العاص لنا وتنويهه بأسمائنا وتشنيعه علينا.
وليس يمنعنا من جوابه إلا أنه إن أجابنا لم يكن جوابنا إياه على قوله الثاني أحق بالترك من جوابنا له على قوله الأول.
فإن نحن جعلنا لابتدائه جواباً وجعلنا لجوابه الثاني جواباً خرجنا إلى التهاتر وصرنا إلى التخابر.
ومن خرج إلى ذلك فقد رضي باللجاج حظاً وبالسخف نصيباً.
وليس يحترس من أسباب اللجاج إلا من عرف أسباب البلوى.
ومن وقاه الله سوء التكفي وسخفه وعصمه من سوء التصميم ونكده فقد اعتدلت طباعه وتساوت خواطره.
ومن قامت أخلاطه على الاعتدال وتكافأت خواطره في الوزن لم يعرف من الأعمال إلا الاقتصاد ولم يجد أفعاله أبداً إلا بين التقصير والإفراط لأن الموزون لا يولد إلا موزوناً كما أن المختلف لا يولد إلا مختلفاً.
فالمتابع لا يثنيه زجر وليست له غاية دون التلف.
والمتكفي ليس له مأتى ولا جهة ولا له رقية ولا فيه حيلة.
وكل متلون في الأرض فمنحل العقد ميسر لكل ريح.
فدع عنك خلطة الإمعة فإنه حارص لا خير فيه واجتنب ركوب الجموح ذي النزوات فإن غايته القتل الزؤاف ولا في الحرون ذي التصمم.
والمتلون شر من المصمم إذ كنت لا تعرف له حالاً يقصد إليها ولا جهة يعمل عليها.
ولذلك صار العاقل يخدع العاقل ولا يخدع الأحمق لأن أبواب تدبير العاقل وحيلة معروفة وطرق خواطره مسلوكه ومذاهبه محصورة معدودة.وليس لتدبير الأحمق وحيله جهة واحدة من أخطأها كذب.
والخبر الصادق عن الشيء الواحد واحد.
والخبز الكاذب عن الشيء الواحد لا يحصى له عدد ولا يوقف منه على حد.
والمصمم قتله بالإجهاز والمتلون قتله بالتعذيب.
فإن قلنا فليس إليه نقصد وإن احتججنا فليسنا عليه نرد.
ولكنا إليك نقصد بالقول وإليك نريد بالمشورة.
وقد قالوا: احفظ سرك فإن سرك من دمك.
وسواء ذهاب نفسك وذهاب ما به يكون قوام نفسك.
قال المنجاب العنبري: " ليس بكبير ما أصلحه المال ".
وفقد الشيء الذي به تصلح الأمور أعظم من الأمور.
ولهذا قالوا في الإبل: " لو لم يكن فيها إلا أنها رقوء الدم " - فالشيء الذي هو ثمن الإبل وغير الإبل أحق بالصون.
وقد قضوا بأن حفظ المال أشد من جمعه.
ولذلك قال الشاعر: وحفظك مالاً قد عنيت بجمعه أشد من الجمع الذي أنت طالبه ولذلك قال مشتري الأرض لبائعها حين قال له البائع: دفعتها إليك بطيئة الإجابة عظيمة المؤنة.
- قال: دفعتها إليك بطيئة الاجتماع سريعة التفرق.
والدرهم هو القطب الذي تدور عليه رحى الدنيا.
واعلم أن التخلص من نزوات الدرهم وتقلبه - من سكر الغنى - وتفلته شديد.
فلو كان إذ تفلت كان حارسه صحيح العقل سليم الجوارح لرده في عقاله ولشده بوثاق.
ولكنا وجدنا ضعفه عن ضبطه بقدر قلقه في ولا تغتر يقولهم: مال صامت فإنه أنطق من كل خطيب وأنم من كل نمام.
فلا تكترث بقولهم: هذين الحجرين فتتوهم جمودهما وسكونهما وقلة ظعنهما وطول إقامتهما فإن عملهما وهما ساكنان ونقضهما للطبائع وهما ثابتان أكثر من صنيع السم الناقع والسبع العادي.
فإن كنت لا تكتفي بصنيعه حتى تمده ولا تحتال فيه حتى يحتال له فالقبر خير لك من الفقر والسجن خير لك من الذل.
وقولي هذا مرة يعقب حلاوة الأبد.
فخذ لنفسك بالثقة.
فقولك الماضي حلو يعقب مرارة الأبد.
فخذ لنفسك بالثقة.
ولا ترض أن يكون الحرباء الراكب العود أحزم منك فإن الشاعر يقول: أني أتيح لها حرباء تنضبة لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا واحذر أن تخرج من مالك درهماً حتى ترى مكانه خيراً منه.
ولا تنظر إلى كثرته فإن رمل عالج فلو أخذ منه ولم يرد عليه لذهب عن آخره.
إن القوم قد أكثروا في ذكر الجود وتفضيله وفي ذكر الكرم وتشريفه وسموا السرف جوداً وجعلوه كرماً.
وكيف يكون كذلك وهو نتاج ما بين الضعف والنفج وكيف والعطاء لا يكون سرفاً إلا بعد مجاوزة الحق وليس وراء الحق إلى الباطل كرم.
وإذا كان الباطل كرماً كان الحق لؤماً.
والسرف - حفظك الله - معصية.
وإذا كانت معصية الله كرماً كانت طاعته لؤماً.
ولئن جمعهما اسم واحد وشملهما حكم واحد ومضادة الحق للباطل كمضادة الصدق للكذب والوفاء للغدر والجور للعدل والعلم للجهل ليجمعن هذه الخصال اسم واحد وليشملنها حكم واحد.
وقد وجنا الله عاب السرف وعاب الحمية وعاب المعصية.
ووجدناه خص السرف بما لم يخص به الحمية لأنه ليس حب المرء لرهطه من المعصية ولا أنفقته من الضيم من حمية الجاهلية.
وإنما المعصية ما جاوز الحق والحمية المعيبة ما تعدى القصد.
فوجدنا اسم الأنفة قد يقع محموداً ومذموماً وما وجدنا اسم المعصية ولا اسم السرف يقع أبداً إلا مذموماً.
وإنما يسر باسم السرف جاهل لا علم له أو رجل إنما يسر به لأن أحداً لا يسميه مسرفاً حتى يكون عنده قد جاوز حد الجود وحكم له بالحق ثم أردفه بالباطل.
فإن سر من غير هذا الوجه فقد شارك المادح في الخطإ وشاكله في وضع الشيء في غير موضعه.
وقد أكثروا في ذكر الكرم.
وما الكرم إلا كبعض الخصال المحمودة التي لم يعدمها بعض الذم.
وليس شيء يخلوا من بعض النقص والوهن.
وقد زعم الأولون أن الكرم يسبب الغبا وأن الغبا يسبب البله وأنه ليس وراء البله إلا العته.
وقد حكوا عن كسرى أنه قال: " احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع " - وسواء جاع فظلم وأحفظ وعسف أم جاع وكذب وضرع وأسف.
وسواء جاع فظلم غيره أم جاع فظلم نفسه.
والظلم لؤم.
وإن كان الظلم ليس بلؤم فالإنصاف ليس بكرم.
فالجود إذا كان لله كان شكراً له والشكر كرم.
ولن يكون الجود - إذا كان معصية - كرماً.
فكيف يتكرم من يتوصل بأياديك إلى معصيتك وبنعمتك إلى سخطك فليس الكرم إلا الطاعة.
وليس اللؤم إلا المعصية وليس بجود ما جاوز الحق وليس بكرم ما خالف الشكر.
ولئن كان مجاوز الحق كريماً ليكونن المقصر دونه كريماً.
فإن قضيتم بقول العامة فالعامة ليست بقدوة.
وكيف يكون قدوة من لا ينظر ولا يحصل ولا يفكر ولا يمثل وإن قضيتم بأقاويل الشعراء وما كان عليه أهل الجاهلية الجهلاء فما قبحوه مما لا يشك في حسنه أكثر من أن نقف عليه أو نتشاغل باستقصائه.
على أنه ليس بجود إلا ما أوجب الشكر كما أنه ليس ببخل إلا ما أوجب اللؤم.
ولن تكون العطية نعمة على المعطى حتى تراود بها نفس ذلك المعطى.
ولن يجب عليه الشكر إلا مع شريطة القصد.
وكل من كان جوده يرجع إليه ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك ولو تهيأ له ذلك المعنى في سواك لما قصد إليك - فإنما جعلك معبراً لدرك حاجته ومركباً لبلوغ محبته.
ولولا بعض القول لوجب لك عليه حق يجب به الشكر.
فليس يجب لمن كان كذلك شكر وإن انتفعت بذلك منه إذا كان لنفسه عمل لأنه لو تهيأ له ذلك النفع في غيرك لما تخطاه إليك.
وإنما يوصف بالجود في الحقيقة ويشكر على النفع في حجة العقل - الذي إن جاد عليك فلك جاد ونفعك أراد من غير أن يرجع إليه جوده بشيء من المنافع على جهة من الجهات وهو الله وحده لا شريك له.
فإن شكرنا للناس على بعض ما قد جرى لنا على أيديهم فإنما هو لأمرين: أحدهما التعبد وقد نعبد الله بتعظيم الوالدين وإن كانا شيطانين وتعظيم من هو أسن منا وإن كنا أفضل منه.
والآخر لأن النفس ما لم تحصل الأمور وتميز المعاني فالسابق إليها حب من جرى لها على يده خير وإن كان لم يردها ولم يقصد إليها.
ووجدنا عطية الرجل لصاحبه لا تخلوا أن تكون لله أو لغير الله.
فإن كانت لله فثوابه على الله.
وكيف يجب علي في حجة العقل شكره وهو لو صادف ابن سبيل غيري لما حملني ولا أعطاني - وإما أن يكون إعطاؤه إياي للذكر.
فإذا كان الأمر كذلك فإنما جعلني سلماً إلى تجارته وسبباً إلى بغيته أو يكون إعطاؤه إياي من طريق الرحمة والرقة ولما يجد في فؤاده من الغصة والألم فإن كان لذلك أعطى فإنما داوى نفسه من دائه وكان كالذي رفه من خناقه.
وإنه كان إنما أعطاني من خوف يدي أو لساني أو اجترار معونتي ونصرتي فسبيله سبيل جميع ما وصفنا وفصلنا.
فلاسم الجود موضعان: أحدهما حقيقة والآخر مجاز.
فالحقيقة ما كان من الله والمجاز المشتق له من هذا الاسم.
وما كان لله كان ممدوحاً وكان لله طاعة.
فإذا لم تكن العطية من الله ولا لله فليس يجوز هذا فيما سموه جوداً فما ظنك بما سموه سرفاً أفهم ما أنا مورده عليك وواصفه لك: إن التربح والتكسب والإستئكال بالخديعة والطعم الخبيثة فاشيةغالبة ومستفيضة ظاهرة.
على أن كثيراً ممن يضاف اليوم إلى النزاهة والتكرم وغلى الصيانة والتوقي ليأخذ من ذلك بنصيب واف.
فما ظنك بدهماء الناس وجمهورهم بل ما ظنك بالشعراء والخطباء الذين إنما تعلموا المنطق لصناعة التكسب وهؤلاء قوم بودهم أن أرباب الأموال قد جاوزوا حد السلامة غلى الغفلة حتى لا يكون للأموال حارس ولا دونها مانع.
فاحذرهم ولا تنظر إلى بزة أحدهم فإن المسكين أقنع منه ولا تنظر غل موكبه فإن السائل أعف منه.
واعلم أنه مسك مسكين وإن كان في ثياب جواد وروحه روح نذل وإن كان في جرم ملك.
وإن اختلفت وجوه مسألتهم واختلفت أقدار مطالبهم فهو مسكين.
إلا أن واحداً يطلب العلق وآخر يطلب الخرق وآخر يطلب الدوانيق وآخر يطلب الألوف.
فجهة هذا هي جهة هذا وطعمة هذا هي طعمة هذا.
وإنما يختلفون في أقدار ما يطلبون على قدر الحذق والسبب.
فأحذر رقاهم وما نصبوا لك من الشرك واحرس نعمتك وما دسوا لها من الدواهي.
واعمل على أن سحرهم يسترق الذهن ويختطف البصر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً يتكلم في حاجة فقال: هذا والله سحر الحلال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خلابة - واحذر احتمال مديحهم فإن محتمل المديح في وجهه كمادح نفسه.
إن مالك لا يسع مريديه ولا يبلغ رضا طالبيه.
ولو أرضيتهم بإسخاط مثلهم لكان ذلك خسرانا مبيناً.
فكيف ومن يسخط أضعاف من يرضى وهجاء الساخط أضر من فقد مديح الراضي.
وعلى أنهم إذا اعتوروك بمشاقصهم وتداولوك بسهامهم لم تر ممن أرضيته بإشخاطهم أحداً يناضل عنك ولا يهاجي شاعراً دونك.
بل يخليك غرضاً لسهامهم ودريئة لنبالهم.
ثم يقول: وما كان عليه لو أرضاهم! فكيف يرضيهم ورضا الجميع شيء لا ينال إني أحذرك مصارع المخدوعين وأرفعك عن مضاجع المغبونين.
إنك لست كمن لم يزل يقاسي تعذر الأمور ويتجرع مرارة العيش ويتحمل ثقل الكد ويشرب بكأس الذل حتى كان يمرن على ذلك جلده ويسكن عليه قلبه.
وفقر مثلك مضاعف الألم وجزع من لم يعرف الألم أشد.
ومن لم يزل فقيراً فهو لا يعرف الشامتين ولا يدخله المكروه من سرور الحاسدين ولا يلام على فقره ولا يصير موعظة لغيره وحديثاً يبقى ذكره ويلعنه بعد الممات ولده.
ودعني من حكايات المستأكلين ورقي الخادعين فما زال الناس يحفظون أموالهم من مواقع السرف ويخبئونها من وجوه التبذير.
ودعني مما لا نراه إلا في الأشعار المتكلفة والأخبار المولدة والكتب الموضوعة.
فقد قال بعض أهل زماننا: ذهبت المكارم إلا من الكتب! فخذ فيما تعلم ودع نفسك مما لا تعلم.
هل رأيت أحداً قط أنفق ماله على قوم كان غناهم سبب فقره أنه سلم عليهم حين افتقر فردوا عليه - فضلاً على غير ذلك أولست قد رأيتهم بين محمق ومحتجب عنه وبين من يقول: فهلا أنزل حاجته بفلان الذي كان يفضله ويقدمه ويؤثره ويخصه - ثم لعل بعضهم أن يتجنى عليه ذنوباً ليجعلها عذراً في منعه وسبباً إلى حرمانه.
قال الله جل ذكره: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.
فأنا القائم عليك بالموعظة والزجر والأمر والنهي وأنت سالم العقل والعرض وافر المال حسن الحال.
فاتق أن أقوم غداً على رأسك بالتقريع والتعبير والتوبيخ والتأنيب وأنت عليل القلب مختل العرض.
عديم من المال سيئ الحال.
ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيوف لأن الوقت قصير والحس مغمور.
ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة وتعجز الحيلة ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً وابن عم شامتاً وجاراً حاسراً وولياً قد تحول عدواً وزوجة مختلعة وجارية مستبيعة وعبداً يحقرك وولداً ينتهرك.
فانظر أين موقع فوت الثناء من موقع ما عددنا عليك من البلاء على أن الثناء طعم ولعلك ألا تطعمه والحمد أرزاق ولعلك ألا تحرمه.
وما يضيع من إحسان الناس أكثر.
وعلى أن الحفظ قد ذهب بموت أهله.
ألا ترى أن الشعر لما كسد أفحم أهله ولما دخل النقص على كل شيء أخ الشعر منه بنصيبه ولما تحولت الدولة في العجم - والعجم لا تحوط الأنساب ولا تحفظ المقامات - لأن من كان في الريف والكفاية وكان مغموراً بسكر الغنى كثر نسيانه وقلت خواطره.
ومن احتاج تحركت همته وكثر تنقيره.
وعيب الغني أنه يورث البلادة وفضيلة الفقر أنه يبعث الفكر.
وإن أنت صحبت الغني بإهمال النفس أسكرك الغني.
وسكر الغني سبة المستأكلين وتهمة الخداعين.
وإن كنت لا ترضى بحظ النائم وبعيش البهائم وأحببت أن تجمع مع تمام نفس المثري ومع عز الغني وسرور القدرة فطنة المخف وخواطر المقل ومعرفة الهارب واستدلال الطالب - اقتصدت في الإنفاق وكنت معداً للحدثان ومحترساً من كل خداع.
لست تبلغ حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل و حيل طراق البلدان وحيل أصحاب الكيمياء وحيل التجار في الأسواق والصناع في جميع الصناعات وحيل أصحاب الحروب وحيل المستأكلين والمتكسبين ولو جمعت الخبر والسحر والتمائم و السم لكانت حيلهم في الناس أشد تغلغلاً وأعرض وأسرى في عمق البدن وأدخل إلى سويداء القلب وإلى أم الدماغ وإلى صميم الكبد ولهي أدق مسلكاً وأبعد غاية من العرق الساري والشبه النازع ولو اتخذت الحيطان الرفيعة الثخينة والأقفال المحكمة الوثيقة ولو اتخذت الممارق والجواسق والأبواب الشداد والحرس المتناوبين بأغلظ المؤن وأشد الكلف وتركت التقدم فيما هو أحضر ضرراً وأدوم شراً ولا غرم عليك في الحراسة فيه ولا مشقة عليك في التحفظ منه.
إنك إن فتحت لهم على نفسك مثل سم الخياط جعلوا فيه نهجاً ولقي رحباً.
فأحكم بابك ولو جعلت الباب مبهماً والقفل مصمتاً لتسوروا عليك من فوقك.
ولو رفعت سمكة إلى العيوق لنقبوا عليك من تحتك.
قال أبو الدرداء: نعم صومعة المؤمن بيته.
وقال ابن سيرين: العزلة عبادة.
حلاوة حديثهم تدعو إلى الاستكثار منهم وتدعو إلى إحضار غرائب شهواتهم.
فمن ذلك قول بعضهم لبعض أصحابه: كل رخلة واشرب مشعلاً ثم تجشأ واحدة لو أن عليها رحى لطحنت! ومن ذلك قول الآخر حين دخل على قوم وهم يشربون وعندهم قيلن فقالوا: اقترح أي صوت شئت قال: أقترح نشيش مقلي! ومن ذلك قول المديني: من تصبح بسبع موزات وبقدح من لبن الأوراك تجشأ بخور الكعبة.
ومن ذلك قولهم لبعض هؤلاء وقدامهم خبيص: أيما أطيب هذا أو الفالوذج أواللوزينج قال: لا أقضي على غائب.
ومن ذلك كلام الجارود بن أبي سبرة لبلال بن أبي بردة حين قال له: صف لي عبد الأعلى وطعامه.
قال: يأتيه الخباز فيمثل بين يديه فيقول: ما عندك فيقول: عندي جدي كذا وعناق كذا وبطة كذا - حتى يأتي على جميع ما عنده.
قال: وما يدعوه إلى هذا قال: ليقتصر كل امرئ في الأكل حتى إذا أتي بالذي يشتهي بلغ منه حاجته.
قال: ثم ماذا قال: ثم يؤتى بالمائدة فيتضايقون حتى يخوي تخوية الظليم.
فيجدون ويهزل حتى إذا فتروا أكل أكل الجائع المقرور.
وقال آخر: أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل ورقطاء من الحمص ذات جفافين من اللحم لها جناحان من العراق أضرب فيها ضرب اليتيم عند وصي السوء! وسئل بعضهم عن حظوظ البلدان في الطعام وما قسم لكل قوم منه فقال: ذهبت الروم بالجشيم والحشو وذهبت فارس بالبارد والحلو.
وقال عمر: لفارس الشفارج والحموض.
فقال دوسر المديني: لنا الهرائس والقلايا ولأهل البدو اللبأ والسلاء والجراد والكمأة والخبزة في الرائب والتمر بالزبد.
وقد قال الشاعر: ألا ليت خبزاً قد تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد ولهم البرمة والخلاصة والحيس والوطيئة.
وقال أعرابي: أتينا ببر كأفواه البعران فخبزنا منه خبزة زيت في النار فجعل الجمر يتحدر عنها تحدر الحشو عن البطان.
ثم ثردناها فجعل الثريد يجول في الإهالة جولان الضبعان في ونعت السويق بأنه من عدد المسافر وطعام العجلان وغذاء المبكر وبلغة المريض.
يشد فؤاد الحزين ويرد من نفس المحدود.
وحيد في السمين ومنعوت في الطيب.
قفاره يجلو البلغم ومسمونه يصفي الدم إن شئت كان ثريداً وإن شئت كان خبيصاً وإن شئت كان طعاماً وإن شئت كان شراباً.
وقيل لبعض هؤلاء اللعامظة والمستأكلين والسفافين المقفعين ورئي سميناً: ما أسمنك قال: أكلي الحار وشربي القار والاتكاء على شمالي وأكلي من غير مالي.
وقد قال الشاعر: وإن امتلأ البطن في حسب الفتى قليل الغناء وهو في الجسم صالح وقيل لآخر: ما أسمنك قال: قلة الفكرة وطول الدعة والنوم على الكظة.
وقال الحجاج للغضبان بن القبعثري: ما أسمنك قال: القيد والرتعة.
ومن كان في ضيافة الأمير سمن.
وقيل لآخر: إنك لحسن السمنة.
قال: آكل لباب البر وصغار المعز وأدهن بخام البنفسج وألبس الكتان.
والله لو كان من يسأل يعطى لما قام كرم العطية بلؤم المسألة.
ومدار الصواب على طيب المكسبة والاقتصاد في النفقة.
وقد قال بعض العرب: اللهم إني أعوذ بك من بعض الرزق حين رأى نافجة من ماله من صداق أمه.
وأي سائل كان ألحف مسألة من الخطيئة وألأم ومن ألأم من جرير بن الخطفي وأبخل ومن أمنع من كثير وأشح من ابن هرمة ومن كان يشق غبار ابن أبي حفصة ومن كان يصطلي بنار أبي العتاهية ومن كأبي نواس في بخله أو كان كأبي يعقوب الخريمي في دقة نظره وكثرة كسبه ومن كان أكثر نحراً لجزرة لم تخلق من ابن هرمة وأطعن برمح لم ينبت وأطعم لطعام لم يزرع من الخريمي فأين أنت عن ابن يسير وأين تذهب عن ابن أبي كريمة ولم تقصر في ذكر الرقاشي ولم تذكر سره إن الأعرابي شر من الحاضر سائل جبار وثابة ملاق إن مدح كذب وإن هجا كذب وإن سب كذب وإن طمع كذب.
لا يعرفه إلا نطف أو أحمق ولا يعطيه غلا من يحبه ولا يحبه غلا من هو في طباعه.
ما أبطأكم عن البذل في الحق! وأسرعكم إلى البذل في الباطل! فإن كنتم الشعراء تفضلون وإلى قولهم ترجعون فقد قال الشاعر: قليل المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثير على الفساد وقد قال الشماخ بن ضرار: وقال أحيحة بن الجلاح: استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب من ابن عم ولا عم ولا خال إني أكب على الزوراء أعمرها إن الكريم على الأقوام ذو مال وقال أيضاً: استغن عن كل ذي قربى وذي رحم إن الغني من استغنى عن الناس والبس عدوك في رفق وفي دعة لباس ذي إربة للدهر لباس ولا يغرنك أضغان مزملة قد يضرب الدبر الدامي بأحلاس وقال سهل بن هارون: إذا امرؤ ضاق عني لم يضق خلقي من أن يراني غنياً عنه بالياس فلا يراني إذا لم يرع آصرتي مستمر يا درراً منه بإبساس لا أطلب المال كي أغني بفضلته ما كان مطلبه فقراً إلى الناس وقال أبو العتاهية: أنت ما استغنيت عن صا - حبك الدهر أخوه فلو أني أشاء نعمت بالاً وباكرني صبوح أو نشيل
ولاعبني على الأنماط لعس على أنيابهن الزنجبيل ولكني خلقت إزاء مال فأبخل بعد ذلك أو أنيل وقال آخر: أبا مصلح أصلح ولا تك مفسداً فإن صلاح المال خير من الفقر ألم تر أن المرء يزداد عزة على قومه أن يعلموا أنه مثري وقال عروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له نسب وخير ويقصى في الندى وتزدريه حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ولكن الغني رب غفور وقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: فلعلي أن يكثر المال عندي ويعرى من المغارم ظهري ويرى أعبد لنا وأواق ومناصيف من خوادم عشر وتجر الأذيال في نعمة زو ل تقولان: ضع عصاك لدهر وى كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ويجنب سر النجى ولكن أخا الفقر محضر كل شر وقال آخر: وللمال مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب وقال الأخنس بن شهاب: وقد عشت دهراً والغواة صحابتي أولئك إخواني الذين أصاحب فأديت عني ما استعرت من الصبا وللمال مني اليوم راع وكاسب وقال ابن أذينة الثقفي: أطعت العرس في الشهوات حتى أعادتني عسيفاً عبد عبد إذا ما جئتها قد بعت عتقاً تعانق أو تقبل أو تفدى من يجمع المال ولا يثبه ويترك العام لعام جدبه يهن على الناس هوان كلبه وقد قيل في المثل: الكد قبل المد وقال لقيط: الغزو أدر للقاح وأحد للسلاح.
وقال أبو المعافى: وإن التواني أنكح العجز بنته وساق إليها حين زوجها مهراً فراشاً وطيئاً ثم قال لها: اتكي فقصركما - لابد - أن تلدا الفقرا وقال عثمان بن أبي العاص: ساعة لدنياك وساعة لآخرتك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وقال: خير الصدقة ما أبقى غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلث. والثلث كثير إنك إن تدع ولدك أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ).
وقال ابن عباس: وددت أن الناس غضوا من الثلث شيئاً لقول النبي عليه السلام: الثلث.
والثلث كثير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
وأنتم ترون أن المجد والكرم أن أفقر نفسي بإغناء غيري وأن أحوط عيال غيري بإضاعة عيالي! كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض أخرى جناحا وقال آخر: كمفسد أدناه ومصلح غيره ولم يأتمر في ذاك أمر صلاح وقال آخر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا وقال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.
وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
فأذن في العفو ولم يأذن في الجهد وأذن في الفضول ولم يأذن في الأصول.
وأراد كعب بن مالك أن يتصدق بماله.فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك مالك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يمنعه من إخراج ماله في الصدقة وأنتم تأمرونه بإخراجه في السرف والتبذير! وخرج غيلان بن سلمة من جميع ماله فأكرهه عمر على الرجوع فيه وقال: لو مت لرجمت قبرك كما يرجم قبر أبي رغال.
وقال الله جل وعز: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكفيك ما بلغك المحل.
وقال: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وقال الله جل ذكره: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.
ولذلك قالوا: خير مالك ما نفعك وخير الأمور أواسطها وشر السير الحقحقة والحسنة بين السيئتين.
وقالوا: دين الله بين المقصر والغالي.
وقالوا حنيفة المثل: بينهما يرمى الرامي.
وقالوا: عليك بالسداد والاقتصاد ولا وكس ولا شطط.
وقالوا: بين الممخة والعجفاء.
وقالوا: لا تكن حلواً فتبتلع ولا مراً فتلفظ.
وقالوا في المثل: ليس الري عن التشاف.
وقالوا: يا عاد اذكر حلاً.
وقالوا: الرشف أنقع للظمآن.
وقالوا: القليل الدائم أكثر من الكثير المنقطع.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من الحق ما ملها.
وقال الشاعر: وإني لحلو تعتريني مرارة وإني لصعب الرأس غير جموح وقالوا في عدل المصلح ولائمة المقتصد: الشحيح أعذر من الظالم.
وقالوا: ليس من العدل سرعة العذل.
وقالوا: لعل له عذراً وأنت تلوم.
وقالوا: رب لائم مليم.
وقال الأحنف: رب ملوم لا ذنب له.
وقال: إعطاء السائل تضرية وإعطاء الملحف مشاركة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصلح المسألة إلا في ثلاث: فقر مدقع وغرم مفظع ودم موجع.
وقال الشاعر: الحر يلحى والعصا للعبد وليس للملحف غير الرد وقالوا: إذا جد السؤال جد المنع.
وقالوا: احذر إعطاء المخدوعين وبذل المغبونين فإن المغبون لا محمود ولا مأجور.
ولذلك قالوا: لا تكن أدنى العيرين إلى السهم.
يقول: إذا أعطيت السائلين مالك صارت مقاتلك أظهر لأعدائك من مقاتلهم.
وقالوا: الفرار بقراب أكيس.
وقال أبو الأسود: ليس من العز أن تتعرض للذل ولا من الكرم أن تستدعي اللؤم.
ومن أخرج ماله من يده افتقر ومن افتقر فلا بد له من أن يضرع والضرع لؤم.
وإن كان الجود شقيق الكرم فالأنفة أولى بالكرم.
وقد قال الأول: اللهم لا تنزلي ماء سوء فأكون امرأ سوء.
وقد قال الشاعر: واخط مع الدهر إذا ما خطا واجر مع الدهر كما يجري وقد قال الآخر: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع وشركاً من ثغرها لا تنقطع وقد صدق قول القائل: من احتاج اغتفر ومن اقتضى تجوز.
وقيل لريسيموس: تأكل في السوق قال: إن جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.
وقال: من أجدب انتجع ومن جاع جشع.
وقال: احذروا نفار النعمة فإنها نوار وليس كل شارد بمردود ولا كل ناد بمصروف وقال علي بن أبي طالب: قلما أدبر شيء فأقبل.
وقالوا: رب أكلة تمنع أكلات ورب عجلة تهب ريثاً.
وعابوا من قال: أكلة وموتة.
وقالوا: لا تطلب أثراً بعد عين.
وقالوا: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن.
فانظر كيف تخرج الدرهم ولم تخرجه.
وقالوا: شر من المررئة سوء الخلف.
وقال الشاعر: إن يكن ما به أصبت جليلاً فذهاب العزاء فيه أجل ولأن تفتقر بجائحة نازلة خير لك من أن تفتقر بجناية مكتسبة.
ومن كان سبباً لذهاب وفره لم تعدمه الحسرة من نفسه واللائمة من غيره وقلة الرحمة وكثرة الشماتة مع الإثم الموبق والهوان على الصاحب.
وذكر عمر بن الخطاب فتيان قرش وسرفهم في الإنفاق ومسابقتهم في التبذير فقال: لخرقة أحدهم أشد علي من عيلته يقول: إن إغناء الفقير أهون علي من إصلاح الفاسد.
ولا تكن على نفسك أشأم من خوتعة وعلى أهلك أشأم من البسوس وعلى قومك أشأم من عطر مشم.
ومن سلط الشهوات على ماله وحكم الهوى في ذات يده فبقي حسيراً فلا يلومن إلا نفسه.
وطوبى لك يوم تقدر على قديم تنتفع به.
وقال بعض الشعراء: أرى كل قوم يمنعون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم أخوفهم إذا ما دارت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال سئوم فهذا بياني لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم وقد كان هذا المعنى في أصحاب النبيذ أوجد.
فأما اليوم فقد استوى الناس.
قال الأضبط بن قريع لما انتقل في القبائل فأساءوا جواره بعد أن تأذى ببني سعد: بكل وا بنو سعد.
خذ بقولي ودع قول أبي العاص.
وخذ بقول من قال: عش ولا تغتر وبقول من قال: لا تطلب أثراً بعد عين وبقول من قال: املأ حبك من أول مطرة ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
أخوك من صدقك ومن أتاك من جهة عقلك ولم يأتك من جهة شهوتك.
وأخوك من احتمل ثقل نصيحتك في حظك ولم تأمن لائمته إياك في غدك.
إن أخاك الصدق من لن يخدعك ومن يضير نفسه لينفعك وقال عبيد بن الأبرص: واعلمن علماً يقيناً أنه ومن يرجى لك من ليس معك ولا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وعين من عقلك على طباعك أو ما كان لك أخ نصيح ووزير شفيق.
والزوجة الصالحة عون صدق.
والسعيد من وعظ بغيرة.
فإن أنت لم ترزق من هذا الخصال صل واحدة فلابد لك من نكبة موجعة يبقى أثرها ويلوح لك ذكرها.
ولذلك قالوا: خير مالك ما نفعك.
ولذلك قالوا: لم يذهب من مالك ما وعظك.
إن المال محروص عليه ومطلوب في قعر البحار وفي رءوس الجبال وفي دغل الغياض ومطلوب في الوعورة ا يطلب في السهولة.
وسواء فيها بطون الأودية وظهور الطرق ومشارق الأرض ومغاربها.
فطلبت بالعز وطلبت بالذل وطلبت بالوفاء وطلبت بالغدر وطلبت بالنسك كما طلبت بالفتك وطلبت بالصدق كما طلبت بالكذب وطلبت بالبذاء وطلبت بالملق - فلم تترك فيها حيلة ولا رقية حتى طلبت بالكفر بالله كما طلبت بالإيمان.
وطلبت بالسخف كما طلبت بالنبل.
فقد نصبوا الفخاخ بكل موضع ونصبوا الشرك بكل ربع.
وقد طلبك من لا يقصر دون الظفر.
وحسدك من لا ينام دون الشفاء.
وقد يهدأ الطالب الطوائل والمطلوب بذات نفسه ولا يهدأ الحريص.
يقال إنه ليس في الأرض بلدة واسطة ولا بادية شاسعة ولا طرف من الأطراف إلا وأنت واجد بها المديني والبصري والحيري.
وقد ترى شنف الفقراء للأغنياء وتسرع الرغبة إلى الملوك وبغض الماشي للراكب وعموم الحسد في المتفاوتين.
وإن لم تستعمل الحذر وتأخذ بنصيبك من المداراة وتتعلم الحزم وتجالس أصحاب الاقتصاد وتعرف الدهور - ودهرك خاصة - وتمثل لنفسك الغير حتى تتوهم نفسك فقيراً ضائعاً وحتى تتهم شمالك على يمينك وسمعك على بصرك ولا يكون أحد أتهم عند نفسك من ثقتك ولا أولى بأخذ الحذر منه من أمينك - اختطفت اختطافاً واستلبت استلاباً وذوبوا مالك وتحيفوه وألزموه السل ولم يداووه.
وقد قالوا: بلي المال ربه وإن كان أحمق.
فلا تكونن دون ذلك الأحمق.
وقالوا: لا تعدم صناع ثلة.
فلا تكونن دون تلك الصناع.
وقد قال الأول في المال المضيع المسلط عليه شهوات العيال: ليس لها راع ولكن حلبة.
وليس مالك المال المعفى من الأضراس فيقال فيه: مرعىً ولا أكولة وعشب ولا بعير.
فقصاراك مع الإصلاح أن يقوم ببطنك وبحوائجك وبما ينوبك.
ولا بقاء للمال على قلة الرعي وكثرة الحلب.
فكس في أمرك وتقدم في حفظ مالك فإن من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين.
والأكرمان: الدين والعرض.
وقد قيل: للرمي يراش السهم وعند النطاح تغلب القرناء.
وإذا رأت العرب مستأكلاً وافق غمراً قالت: ليس عليك نسجه فاسحب وخرق.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس كلهم سواء كأسنان المشط والمرء كثير بأخيه) ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك ما يرى لنفسه.
فتعرف شأن أصحابك ومعنى جلسائك.
فإن كانوا في هذه الصفة فاستعمل الحزم وإن كانوا في خلاف ذلك عملت على حسب ذلك.
إني لست أمرك إلا بما أمرك به القرآن.
ولست أوصيك إلا بما أوصاك به الرسول.
ولا أعظك إلا بما وعظ به الصالحون بعضهم بعضاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).
وقال مطرف بن الشخير: من نام تحت صدف مائل وهو ينوي التوكل فليرم بنفسه من طمار وهو ينوي التوكل! فأين التوقي الذي أمر الله به وأين التغرير الذي نهى عنه ومن طمع في السلامة من غير تسلم فقد وضع الطمع في موضع الأماني.
وإنما ينجز الله الطمع إذا كان فيما أمر به وإنما يحقق من الأمل ما كان هو المسبب له.
وفر عمر من الطاعون فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله قال نعم إلى قدر الله وقيل له: هل ينفع الحذر من القدر فقال: لو كان الحذر لا ينفع لكان الأمر به لغواً.
فإبلاء العذر هو التوكل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل قال في خصومة: حسبي الله: أبل الله عذراً فإذا أعجزك أمر فقل: حسبي الله.
وقال الشاعر: ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلي عذراً أو ليبلغ حاجة ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وقال الآخر: فإن لم يكن القاضي قضى غير عادل فبعد أمور لا ألوم لها نفسي وقال زهير البابي: إن كان التوكل أن أكون متى أخرجت مالي أيقنت بالخلف وجعلت الخلف مالاً يرجع في كيسي ومتى ما لم أحفظه أيقنت بأنه محفوظ فإني أشهدكم أني لم أتوكل قط.
إنما التوكل أن تعلم أنك متى أخذت بأدب الله أنك تتقلب في الخير فتجزى بذلك إما عاجلاً وإما آجلاً - ثم قال: فلم تجر أبو بكر ولم تجر عمر ولم تجر عثمان ولم تجر الزبير ولم تجر عبد الرحمن ولم علم عمر الناس يتجرون وكيف يشترون ويبيعون ولم قال عمر: إذا اشتريت جملاً فاجعله ضخماً فإن لم يبعه الخبر باعه المنظر ولم قال عمر: فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين.
ولم قال عثمان حين سئل عن كثرة أرباحه قال: لم أرو من ربح قط.
ولم قيل: لا تشتر عيباً ولا شيباً وهل حجر علي بن أبي طالب على ابن أخيه عبد الله بن جعفر إلا في إخراج المال في غير حقه وإعطائه في هواه وهل كان ذلك إلا في طلب الذكر والتماس الشكر وهل قال أحد: إن إنفاقه كان في الخمور والقمار وفي الفسولة والفجور وهل كان إلا فيما تسمونه جوداً وتعدونه كرماً ومن رأى أن يحجر على الكرام لكرمهم رأى أن يحجر على الحلماء لحلمهم.
وأي إمام بعد أبي بكر تريدون وبأي سلف بعد علي تفتدون.
وكيف نرجو الوفاء والقيام بالحق والصبر على النائبة من عند لعموظ مستأكل وملاق مخادع ومنهوم بالطعام شره لا يبالي بأي شيء أخذ الدرهم ومن أي وجه أصاب الدينار ولا يكترث للمنة ولا يبالي أن يكون أبداً منهوماً منعوماً عليه وليس يبالي - إذا أكل - كيف كان ذلك الطعام وكيف كان سببه وما حكمه فإن كان مالك قليلاً فإنما هو قوام عيالك وإن كان كثيراً فاجعل الفاضل لعدة نوائبك.
ولا يأمن الأيام إلا المضلل ولا يغتر بالسلامة إلا المغفل.
فأحذر طوارق البلاء وخدع رجال الدهاء.
سمنك في أديمك وغثك خير من سمين غيرك لو وجدته فكيف ودونه أسل حداد وأبواب شداد قالت امرأة لبعض العرب: إن تزوجتني كفيتك فأنشأ يقول: وما خير مال ليس نافع أهله وليس لشيخ الحي في أمره أمر وقال المعلوط القريعي: أبا هانئ لا تسأل الناس والتمس بكفيك ستر الله فالله واسع فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا إذا قلت: هاتوا أن يملوا فيمنعوا ثم رجع إلى أحاديث البخلاء وإلى طرف معانيهم وكلامهم.
قال ابن حسان: كان عندنا رجل مقل و كان له أخ مكثر وكان مفرط البخل شديد النفح فقال له يوماً أخوه: ويحك! أنا فقير معيل وأنت غني خفيف الظهر لا تعينني على الزمان و لا تواسيني ببعض مالك و لا تتفرج لي عن شيء! و الله ما رأيت قط ولا سمعت أنحل منك! قال: ويحك! ليس الأمر كما تظن ولا المال كما تحسب ولا أنا كما تقول في البخل ولا في اليسر والله لو ملكت ألف ألف درهم لوهبت لك خمسمائة ألف درهم.
يا هؤلاء فرجل يهب في ضربة واحدة خمسمائة الف درهم يقال له: بخيل! وأما صاحب الثريدة البلقاء فليس عجبي من بلقة ثريدته وسائر ما كان يظهر على خوانه كعجبي من شيء واحد وكيف ضبطه وحصره وقوي عليه مع كثرة أحاديثه وصنوف مذاهبه وذلك أني في كثرة ما جالسته وفي كثرة ما كان فيه يفنن من الأحاديث لم أره خبر أن رجلاً وهب لرجل درهماً واحداً! فقد كان يفنن في الحزم والعزم وفي الحلم والعلم وفي جميع المعاني إلا ذكر الجود فإني لم أسمع هذا الاسم منه قط: خرج هذا الباب من لسانه كما خرج من قلبه! ويؤكد ما قلت ما حدثني به طاهر الأسير فإنه قال: ومما يدل على أن الروم أبخل الأمم أنك لا تجد للجود في لغتهم اسماً.
يقول: إنما يسمى الناس ما يحتاجون إلى استعماله.
ومع الاستغناء يسقط التكلف.
وقد زعم ناس أن مما يدل على غش الفرس أنه ليس للنصيحة في لغتهم اسم واحد يجمع المعاني التي يقع عليها هذا الاسم.
وقول القائل: نصيحة ليس يراد به سلامة القلب فقد يكون أن يكون الرجل سليم الصدر ولم يحدث سبب من أجله يقصد إلى المشورة عليك بالذي هو أرد عليك - على حسب رأيه فيك - وجهاً لنفعك.
ففي لغتهم اسم للسلامة واسم لإرادة الخير وحسن المشورة وحملك بالرأي على الصواب.
فللنصيحة عندهم أسماء مختلفة إذا اجتمعت دلت على ما يدل عليه الاسم الواحد في لغة العرب.
فمن قضى عليهم بالغش من هذا الوجه فقد ظلم.
وحدثني إبراهيم بن عبد العزيز قال: تغديت مع راشد الأعور فأتونا بجام فيه بيان سبخي الذي يقال له الدراج فجعلت آخذ الواحدة فأقطع رأسها ثم أعزله ثم أشقها باثنين من قبل بطنها فآخذ شوكة الصلب والأضلاع فأعزلها وأرمي بما في بطنها وبطرف الذنب والجناح.
ثم أجمعها في لقمة واحدة وآكلها.
وكان راشد يأخذ البياحة فيقطعها قطعتين فيجعل قطعة في لقمة لا يلقي رأساً ولا ذنباً - فصبر لي على لقم عدة.
فلما بلغت المجهود منه قال: أي بني إذا أكلت الطعام فكل خيره بشره! قال: وكان يقول: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصبهان.
فأما الزنجي فإنه لا يتخير وأنا أتخير.
وأما الأصبهاني فإنه يقبض القبضة ولا يأكل من غيرها ولا ينظر إلى ما بين يديه حتى يفرغ من القبضة. وهذا عدل. والتخير قرفة وجور. لا جرم أن الذي يبقى من التمر لا ينتفع به العيال إذا كان قدام من يتخير.
وكان يقول: ليس من الأدب أن تجول يدك في الطبق وإنما هو تمر وما أصاب.
وزعم سري بن مكرم وهو ابن أخي موسى بن جناح قال: كان موسى يأمرنا ألا نأكل ما دام أحد منا مشغولاً بشرب الماء وطلبه.
فلما رآنا لا نطاوعه دعا ليلة بالماء ثم خط بإصبعه خطاً وأحاديثه في صدر هذا الكتاب.
وهذا منها.
وقال المكي لبعض من كان يتعشى ويفطر عند الباسياني: ويحكم! كيف تسيغون طعامه وأنتم تسمعونه يقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.
ثم ترونه لا يقرؤها إلا وأنتم على العشاء ولا يقرأ غير هذه الآية.
أنتم والله ضد الذي قال: ألبان إبل تعلة بن مسافر ما دام يملكها على حرام وطعام عمران بن أوفى مثله ما دام يسلك في البطون طعام إن الذين يسوغ في أعناقهم زاد يمن عليهم للئام قال: فمتى تعجب أعجب من خمسين رجلاً من العرب فيهم أبو رافع الكلابي وهو شاعر ندى يفطرون عند أبي عثمان الأعور.
فإفطاري من طعام نصراني أشد من إفطاري من طعام مسلم يقرأ القرآن ويقول الحق.
وحدثني أبو المنجوف السدوسي قال: كنت مع أبي ومعنا شيخ من موالي الحي.
فمررنا بناطور على نهر الأبلة ونحن تعبون.
فجلسنا إليه.
فلم يلبث أن جاءنا بطبق عليه رطب سكر وجيسوان أسود فوضعه بين أيدينا.
فأكل الشيخ الذي كان معنا.
فلما رأيت أبي لا يأكل لم آكل وبي إلى ذلك حاجة.
فأقبل الناطور على أبي فقال: لم لا تأكل قال: والله إني لأشتهيه.
ولكن لا أظن صاحب الأرض أباح لك طعام الناس من الغريب.
فلو جئتنا بشيء من السهريز والبرني لأكلنا.
فقال مولانا وهو شيخ كبير السن: ولكني أنا لم أنظر في شيء من هذا قط.
قال المكي: دخل إسماعيل بن غزوان إلى بعض المساجد يصلي.
فوجد الصف تاماً فلم يستطع أن يقوم وحده.
فجذب ثوب شيخ في الصف ليتأخر فيقوم معه.
فلما تأخر الشيخ ورأى الفرج تقدم فقام في موضع الشيخ وترك الشيخ قائماً خلفه ينظر في قفاه ويدعو الله عليه.
وكان ثمامة يحتشم أن يقعد على خوانه من لا يأنس به.
ومن رأيه أن يأكل بعض غلمانه معه.
فحبس قاسم التمار يوماً على غدائه بعض من يحتشمه.
فاحتمل ذلك ثمامة في نفسه.
ثم عاد بعد ذلك إلى مثلها ففعل ذلك مراراً حتى ضج ثمامة واستفرغ صبره.
فأقبل عليه فقال: ما يدعوك إلى هذا لو أردتم لكان لساني مطلقاً وكان رسولي يؤدي عني.
فلم تحبس على طعامي من لا آنس به قال: إنما أريد أن اسخيك فأنفي عنك التبخيل وسوء الظن.
فلما أن كان بعد ذلك أراد بعضهم الانصراف قال له قاسم: أين تريد قال: قد تحرك بطني فأريد المنزل.
قال: فلم لا تتوضأ هاهنا فإن الكنيف خال نظيف والغلام فارغ نشيط وليس من أبي معن حشمة ومنزله منزل إخوانه! فدخل الرجل فتوضأ.
فلما كان بعد أيام حبس آخر.
فلما كان بعد ذلك حبس آخر! فاغتاظ ثمامة وبلغ في الغيظ مبلغاً لم يكن على مثله قط.
ثم قال: هذا يحبسهم على غدائي لأن يسخيني بحبسهم على أن يخرءوا عندي! لمه لأن من لم يخرأ الناس عنده فهو بخيل على الطعام! وقد سمعتهم يقولون: فلان يكره أن يؤكل عنده.
ولم أسمع أحداً قط قال: فلان يكره أن يخرأ عنده! وكان قاسم شديد الأكل شديد الخبط قذر المؤاكلة.
وكان أسخى الناس على طعام غيره وأبخل الناس على طعام نفسه.
وكان يعمل عمل رجل لم يسمع بالحشمة ولا بالتجمل قط.
فكان لا يرضى بسوء أدبه على طعام ثمامة حتى يجر معه ابنه إبراهيم.
وكان بينه وبين إبراهيم ابنه في القذر ما بينه وبين جميع العالمين! فكانا إذا تقابلا على خوان ثمامة لم يكن لأحد على أيمانهما وشمائلهما حظ في الطيبات! فأتوه يوماً بقصعة ضخمة فيها ثريدة كهيئة الصومعة مكللة بإكليل من عراق بأكثر ما يكون من العراق.
فأخذ قاسم الذي يستقبله ثم أخذ يمنة وأخذ ما بين يدي من كان بينه وبين ثمامة حتى لم يدع إلا عرقاً قدام ثمامة.
ثم مال على جانبه الأيسر فصنع مثل ذلك الصنيع.
وعارضه ابنه وحاكاه! فلما أن نظر ثمامة إلى الثريدة مكشوفة القناع مسلوبة عارية واللحم كله بين يديه وبين يدي ابنه إلا قطعة واحدة بين يديه تناولها فوضعها قدام إبراهيم ابنه ولم يدفعها.
واحتسب بها في الكرامة والبر.
فقال قاسم لما فرغ من غدائه: أما رأيتم إكرام ثمامة لابني وكيف خصه فلما حكى هذا لي قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشام على عيالك منه! فلما حكى هذا لي قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشأم على عيالك منه! هذا أحرجه الغيظ وهذا الغيظ لا يتركه حتى يتشفى منك.
فإن قدر لك على ذنب فقد والله هلكت.
وإن لم يقدر أقدره لك الغيظ.
وأبواب التجني كثيرة.
وليس أحد إلا وفيه ما إن شئت جعلته ذنباً.
فكيف وأنت ذنوب من قرنك إلى قدمك! وكان ثمامة يفطر أيام كان في أصحاب الفساطيط ناساً.
فكثروا عليه وأتوه بالرقاع والشفاعات.
وفي حشوة المتكلمين أخلاق قبيحة وفيهم على أهل الكلام وعلى أرباب الصناعات محنة عظيمة.
فلما رأى ثمامة ما قد دهمه أقبل عليهم وهم يتعشون فقال: إن الله عز وجل لا يستحيي من الحق.
كلكم واجب الحق.
ومن لم تجئنا شفاعته فأكرمه كمن تقدمت شفاعته.
كما أنا لو فكذلك أنتم إذا أعجزنا أو بدا لنا فليس بعضكم أحق بالحرمان من بعض أو بالحمل عليه أو بالاعتذار إليه من بعض.
ومتى قربتكم وفتحت بابي لكم وباعدت من هو أكثر منكم عدداً وأغلقت بابي دونهم لم يكن في إدخالي إياكم عذر لي ولا في منع الآخرين حجة.
فانصرفوا ولا تعودوا! قال أبو محمد العروضي: وقعت بين قوم عربدة فقام المغني يحجز بينهم وكان شيخاً معيلاً بخيلاً.
فمسك رجل بحلقه فعصره فصاح: معيشتي! معيشتي! فتبسم وتركه.
وحثني ابن كريمة قال: وهبوا للكناني المغني خابية فارغة.
فلما كان عند انصرافه وضعوها له على الباب.
ولم يكن عنده كراء حمالها.
وأدركه ما يدرك المغنين من التيه فلم يحملها.
فكان يركلها ركلة فتدحرج وتدور بمبلغ حمية الركلة.
ويقوم من ناحية كي لا يراه إنسان ويرى ما يصنع.
ثم يدنو منها ثم يركلها أخرى فتدحرج وتدور ويقف من ناحية.
فلم يزل يفعل ذلك إلى أن بلغ بها المنزل! قالوا: كان عبد النور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن قد استخفى بالبصرة في عبد القيس من أمير المؤمنين أبي جعفر وعماله.
وكان في غرفة قدامها جناح.
وكان لا يطلع رأسه منها.
فلما سكن الطلب شيئاً وثبت عنده حسن جوار القوم صار يجلس في الجناح يرضى بأن يسمع الصوت ولا يرى الشخص لما في ذلك من الأنس عند طول الوحشة.
فلما طالت به الأيام ومرت أيام السلامة جعل في الجناح خرقاً بقدر عينه.
فلما طالت الأيام صار ينظر من شق باب كان مسموراً.
ثم ما زال يفتحه الأول فالأول إلى أن صار يخرج رأسه ويبدي وجهه.
فلما لم ير شيئاً يريبه قعد في الدهليز.
فلما زاد في الأنس جلس على باب الدار! ثم صلى معهم في مصلاهم ودخل.
ثم صلى بعد ذلك وجلس.
والقوم عرب.
وكانوا يفيضون في الحديث ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل ومن الخبر الأيام والمقامات.
وهو في ذلك ساكت إذا أقبل عليه ذات يوم فتى منهم خرج عن أدبهم وأغفل بعض ما راضوه به من سيرتهم فقال له: يا شيخ إنا قوم نخوض في بعض ضروب فربما تكلمنا بالمثلبة وأنشدنا الهجاء.
فلوا أعلمتنا ممن أنت تجنبنا كل ما يسوءك.
ولو اجتنبنا أشعار الهجاء كلها وأخبار المثلب بأسرها لم نأمن أن يكون ثناؤنا ومديحنا لبعض العرب مما يسوءك.
فلو عرفتنا نسبك كفيناك سماع ما يسوءك من هجاء قومك ومن مديح عدوك.
فلطمه شيخ منهم وقال: لا أم لك! محنة كمحنة الخوارج وتنقير كتنقير العيابين ولم لا تدع ما يريبك إلى مالا يريبك فتسكت إلا عما توقن بأنه يسره.
قال: وقال عبد النور: ثم إن موضعي نبا بي لبعض الأمر.
فتحولت إلى شق بني تميم فنزلت برجل فأخذته بالثقة وأكمنت نفسي إلى أن أعرف سبيل القوم.
وكان للرجل كنيف إلى جانب داره يشرع في طريق لا ينفذ.
إلا أن من مر في ذلك الشارع رأى مسقط الغائط من خلاء ذلك الجناح.
وكان صاحب الدار ضيق العيش فاتسع بنزولي عليه.
فكان القوم إذا مروا به ينظرون إلى موضع الزبل والغائط فلا يذهب قلبي إلى شيء مما كانوا يذهبون إليه.
فبينا أنا جالس ذات يوم إذا أنا بأصوات ملتفة على الباب وإذا صاحبي ينتفي ويعتذر وإذا الجيران قد اجتمعوا إليه وقالوا: ما هذا الثلط الذي يسقط من جناحك بعد أن كنا لا نرى إلا شيئاً كالبعر من يبس الكعك وهذا ثلط يعبر عن أكل غض! ولولا أنك انتجعت على بعض من تستر وتواري لأظهرته.
وقد قال الأول: الستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر ولولا أن هذا طلبة السلطان لما توارى.
فلسنا نأمن من أن يجر على الحي بلية.
ولست تبالي - إذا حسنت حالك في عاجل أيامك - إلام يفضي بك الحال وما تلقى عشيرتك.
فإما أن تخرجه إلينا وإما أن تخرجه عنا.
قال عبد النور: فقلت: هذه والله القيافة ولا قيافة بني مدلج! إنا لله! خرجت من الجنة إلى النار! وقلت: هذا وعيد. وقد اعذر من انذر.
فلم أظن أن اللؤم يبلغ ما رأيت من هؤلاء ولا ظننت أن الكرم يبلغ ما رأيت من أولئك! شهدت الأصمعي يوماً وأقبل على جلسائه يسألهم عن عيشهم وعما يأكلون ويشربون.
فأقبل على الذي عن يمينه فقال: أبا فلان ما أدمك قال: اللحم.
قال: أكل يوم لحم قال: نعم.
قال: وفيه الصفراء والبيضاء والحمراء والكدراء والحامضة والحلوة والمرة قال: نعم.
قال: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه يضرب على هذا.
وكان يقول: مد من اللحم كمد من الخمر.
ثم سأل الذي يليه قال: أبا فلان ما أدمك قال: الآدام الكثير والألوان الطيبة.
قال: أفي آدامك سمن قال: نعم.
قال فتجمع السمن والسمين على مائدة قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب رحمة الله عله ورضوانه يضرب على هذا.
وكان إذا وجد القدور المختلفة الطعوم كدرها في قدر واحدة وقال: إن العرب لو أكلت هذا لقتل بعضها بعضاً.
ثم يقبل على الآخر فيقول: أبا فلان ما أدمك قال: اللحم السمين والجداء الرضع.
قال: فتأكله بالحوارى قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
أو ما سمعته يقول: أتروني لا أعرف الطعام الطيب لباب البر بصغار المعزى.
ألا تراه كيف ينتفي من أكله وينتحل معرفته ثم يقبل على الذي يليه فيقول: أبا فلان ما أدمك فيقول: أكثر ما نأكل لحوم الجزور ونتخذ منها هذه القلايا ونجعل بعضها شواء.
قال: أفتأكل من أكبادها وأسمنتها وتتخذ لك الصباغ قال: نعم.
قال: ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
أو ما سمعته يقول: أتروني لا أقدر أتخذ أكباداً وأفلاذاً وصلائق وصناباً ألا تراه كيف ينكر أكله ويستحسن معرفته ثم يقول للذي يليه: أبا فلان ما أدمك فيقول: الشبارقات والأخبصة والفالوذجات.
قال: طعام العجم وعيش كسرى ولباب البر بلعاب النحل بخالص السمن - حتى أتى على آخرهم.
كل ذلك يقول: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب.
كان ابن الخطاب يضرب على هذا.
فلما انقضى كلامه أقبل عليه بعضهم فقال: يا أبا سعيد ما أدمك قال: يوماً لبن ويوماً زيت ويوماً سمن ويوماً تمر ويوماً جبن ويوماً قفار ويوماً لحم.
عيش آل الخطاب.
ثم قال: قال أبو الأشهب: كان الحسن يشتري لأهله كل يوم بنصف درهم لحماً.
فإن غلا فبدرهم.
فلما حبس عطاؤه كانت مرقته بشحم.
ونبئت عن رجل من قريش أنه كان يقول: من لم يحسن يمنع لم يحسن يعطى وأنه قال لابنه: أي بني إنك إن أعطيت في غير موضع الإعطاء أوشك أن تستعطي الناس فلا تعطي.
ثم أقبل علينا فقال: هل علمتم أن اليأس أقل من القناعة وأعز.
إن الطمع لا يزال طمعاً وصاحب الطمع لا ينتظر الأسباب ولا يعرف الطمع الكاذب من الصادق.
والعيال عيالان: شهوة مفسدة وضرس طحون.
وأكل الشهوة أثقل من أكل الضرس.
وقد زعموا أن العيال سوس المال وأنه لا مال لذي عيال.
وأنا أقول: إن الشهوة تبلغ ما لا يبلغ السوس وتأتي على ما يقصر دونه العيال.
وقد قال الحسن: ما عال أحد قط عن قصد.
وقيل ليشخ من أهل البصرة: مالك لا ينمي لك مال قال: " لأني اتخذت العيال قبل المال واتخذ الناس المال قبل العيال ".
وقد رأيت من تقدم عياله ماله فجبره الإصلاح ورفده الاقتصاد وأعانه حسن التدبير.
وقال: أر لشهواني تدبيراً ولا لشره صبراً.
وقال إياس بن معاوية: إن الرجل يكون عليه ألف فينفق ألفاً فيصلح فتصلح له الغلة.
ويكون عليه ألفان فينفق ألفين فيصلح فتصلح له الغلة.
ويكون عليه ألفان فينفق ثلاثة آلاف فيتبع العقار في فضل النفقة.
وذكر الحديث عن أبي لينة قال: كنت أرى زياداً وهو أمير يمر بنا على بغلة في عنقها حبل من ليف مدرج على عنقها.
وكان سلم بن قتيبة يركب بغلة وحده ومعه أربعة آلاف رابطة.
ورآه الفضل بن عيسى على حمار وهو أمير فقال: بذلة نبي وقعود جبار! ولو شاء أبو سيارة أن يدفع بالعرب على جمل مهري أو فرس عتيق لفعل.
ولكنه أراد هدى الصالحين.
وحمل عمر على برذون فهملج تحته.
فنزل عنه.
فقال لأصحابه: جنبوني هذا الشيطان.
ثم قال لأصحابه: لا تطلبوا العز بغير ما أعزكم الله به.
قد كنت أعجب من بعض السلف حيث قال: ما أعرف شيئاً مما كان الناس عليه إلا الأذان.
وأنا أقول ذلك.
ولم يزل الناس في هبوط ما ترفعوا بالإسراف وما رفعوا البنيان للمطاولة.
وإن من أعجب ما رأيت في هذا الزمان أو سمعت مفاخرة مويس بن عمران لأبي عبيد الله بن سليمان في أيهما كان أسبق إلى ركوب البراذين! وما للتاجر وللبرذون وما ركوب التاجر للبراذين إلا كركوب العرب للبقر! ولو كانوا إذا جلسوا في الخيوش واتخذوا الحمامات في الدور وأقاموا وظائف الثلج والريحان واتخذوا القيان والخصيان استرد الناس ودائعهم واسترجعت القضاة أموال الأيتام والحشرية منهم لعادوا إلى دينهم وعيشهم واقتصادهم.
وإذا رآهم أصحاب الغلات وأهل الشرف والبيوتات أنفوا أن يكونوا دونهم في البزة والهيئة.
فهلكوا وأهلكوا.
زعم أبو يعقوب الخريمي أن جعفر بن يحيى أراد يوماً حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي وأنه دفع إلى خادم له كيساً فيه ألف دينار وقال له: سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي.
وسيحدثني ويضحكني.
فإذا رأيتني قد ضحكت فضع الكيس بين يديه.
فلما دخل فرأى حباً مقطوع الرأس وجرة مكسورة العروة وقصعة مشعبة وجفنة أعشاراً ورآه على مصلى بال وعليه بركان أجرد - غمز غلامه بعينه ألا يضع الكيس بين يديه ولا يدفع إليه شيئاً.
فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه فما تبسم فقال له إنسان: ما أدري من أي أمر يك أعجب أمن صبرك على الضحك وقد أورد عليك ما لا يصبر على مثله أم من تركك إعطاءه وقد كنت عزمت على إعطائه وهذا خلاف ما أعرفك به! قال: ويلك! من استرعى الذئب فقد ظلم. ومن زرع سبخة حصد الفقر.
إني والله لو علمت أنه يكتم المعروف بالفعل لما ارتفقت بنشره له باللسان.
وأين يقع مديح اللسان من مديح آثار الغنى على الإنسان فاللسان قد يكذب والحال لا تكذب.
لله در نصيب حيث يقول: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح له من شعر زهير لآل سنان بن أبي حارثة لأن الشاعر يكذب ويصدق وبنيان لا يكذب مرة ويصدق مرة.
فلست بعائد إلى هذا بمعروف أبداً.
كان الأصمعي يتعوذ بالله من الاستقراض والاستقراض.
فأنعم الله عليه حتى صار هو المستقرض منه والمستفرض ما عنده.
فاتفق أن أتاه في يوم واحد رجلان.
وكان أحدهما يطلب الفرض والآخر يطلب القرض.
هجما عليه معاً فأثقله ذلك وملأ صدره! ثم أقبل على صاحب السلف فقال: " تتبدل الأفعال بتبدل الحال.
ولكل زمان تدبير ولكل شيء مقدار والله في كل يوم في شأن.
كان الفقيه يمر باللقطة فيتجاوزها ولا يتناولها كي يمتحن بحفظها سواه إذ كان جل الناس في ذلك الدهر يريدون الأمانة ويحوطون اللقطة.
فلما تبدلوا وفسدوا وجب على الفقيه إحرازها والحفظ لها وأن يصبر على ما نابه من المحنة واختبر به من الكلفة ".
" وقد بلغني أن رجلاً أتي صديقاً له يستقرض منه مالاً فتركه بالباب ثم خرج إليه مؤتزراً.
فقال له: مالك قال: جئت للقتال والطام والخصومة والصخب.
قال: ولم قال: لأنك في أخذ مالي بين حالين: إما أن تذهب به.
وإما أن تمطلني به.
فلو أخذته على طريق البر والصلة لاعتددت عليك بحق ولوجب عليك به شكر.
وإذا أخذته من طريق السلف كانت العادة في الديون والسيرة في الأسلاف الرد أو التقاضي.
وإذا تقاضيتك أغضبتك وإذا أغضبتك أسمعتني ما أكره فتجمع على المطل وسوء اللفظ والوحشة وإفساد اليد في الأسلاف وأنت أظلم فأغضب كما غضبت.
فإذا نقلتني إلى حالك فعلت فعلك وصرت أنا وأنت كما قال العربي: أنا تئق وصاحبي مئق - فما ظنك بمئق من الغيظ مملوء من الغضب لاقى متأقاً من الموق مملوءاً من الكفران - ولكني أدخل إلى المنزل فأخرج إليك مؤتزراً فأعجل لك اليوم ما أخرته إلى غد.
وقد علمت أن ضرب الموعظة دون ضرب الحقد والسخيمة فتربح صرف ما بين الألمين وفضل ما بين الشتمين ".
" وبعد فأنا أضن بصداقتي لك وأشح على نصيبي منك من أن أعرضه للفساد وأن أعينك على القطيعة.
فلا تلمني على أن كنت عندي واحداً من أهل عصرك.
فإن كنت عند نفسك فوقهم وبعيداً من مذهبهم فلا تكلف الناس علم الغيب فتظلمهم ".
ثم قال: " وما زالت العارية مؤداة والوديعة محفوظة.
فلما قالوا: أحق الخيل بالركض المعار بعد أم كان يقال: أحق الخيل بالصون المعار وبعد المؤمنين قيل لبعضهم: ارفق به قال: إنه عارية وقال الآخر: فاقتل! - فسدت العارية واستد هذا الباب.
ولما قالوا: واخفض جناحك إن مشيت تخشعاً حتى تصيب وديعة ليتيم " " وحين أكلت الأمانات الأمناء والأوصياء ورتع فيها المعدلون والصارفون وجب حفظها ودفنها وكان أكل الأرض لها خيراً من أكل الخئون الفاجر واللئيم الغادر.
وهذا مع قول أكثم بن صيفي في ذلك الدهر: لو سئلت العارية: أين تذهبين قالت: أكسب أهلي ذماً ".
" وأنا اليوم أنهي عن العارية والوديعة وعن القرض والفرض وأكره أن يخالف قولي فعلي.
أما القرض فما أنبأتك وأما الفرض فليس يسعه إلا بيت المال.
ولو وهبت لك درهماً واحداً لفتحت على مالي باباً لا تسده الجبال والرمال ولو استطعت أن أجعل دونه ردماً كردم ياجوج ومأجوج ".
" إن الناس فاغرة أفواههم نحوه من عنده دراهم فليس يمنعهم من النهس إلا اليأس.
وإن طعموا لم تبق راغية ولا ثاغية ولا سبد ولا لبد ولا صامت ولا ناطق إلا ابتلعوه والتهموه! أتدري ما تريد بشيخك إنما تريد أن تفقره.
فإذا أفقرته فقد قتلته.
وقد تعلم ما جاء في قتل النفس المؤمنة "! فلم أشبه قول الأصمعي لهذا الرجل حين قال: " أنا أضن بك وأشح على نصيبي منك من أن أعرضه للفساد " إلا بقول ثمامة حين قال لابن سافري: " بالنظر مني أقول لك والشفقة مني أسبك ".
وذلك أنه ندم فرأى أن هذا القول يجعل ذلك منه يداً ونعمة.
وشهدت ثمامة وقد أتاه رجل قال: لي إليك حاجة فقال ثمامة: ولي إليك أيضاً حاجة.
قال: وما حاجتك قال: لست أذكرها لك حتى تضمن لي قضاءها.
قال: نعم.
قال: فحاجتي ألا تسألني هذه الحاجة.
قال: إنك لا تدري ما هي قال: بلى قد دريت.
قال: فما هي قال: هي حاجة.
وليس يكون الشيء حاجة إلا وهي تخرج إلى شيء من الكلفة.
قال: فقد رجعت عما أعطيتك.
قال: لكني لا أرد ما أخذت.
فأقبل عليه آخر فقال: لي حاجة إلى منصور بن النعمان.
قال: قل.
لي حاجة إلى ثمامة بن أشرس لأني أنا الذي أقضي لك الحاجة ومنصور يقضيها لي.
فالحاجة أنا أقضيها لك وغيري يقضيها لي.
ثم قال: فأنا لا أتكلم في الولايات ولا أتكلم في الدراهم لأن الدراهم من قلوب الناس ولأن الحوائج تنقض.
فمن سألته اليوم أن يعطيك سألني غداً أن أعطي غيرك.
فتعجيلي تلك العطية لك أروح لي.
ليس عندي دراهم ولو كان عندي دراهم لكانت نوائبي القائمة الساعة تستغرقها.
ولكن أؤنب لكم من شئتم.
علي لكم من التأنيب كل ما تريدون! قلت له فإذا أتيت رجلاً في أمر لم تتقدم فيه بمسألة كيف يكون جوابه لك فضحك حتى وجاء مرة أبو همام المسوط يكلمه في مرمة داره التي تطوع ببنائها في رباط عبادان فقال: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً.
قد كنت عزمت على هدمها حين بلغني أن الجبرية قد نزلتها.
قال: سبحان الله! تهدم مكرمة وداراً قد وقفتها للسبيل قال: فتعجب من ذا قد أردت أن أهدم المسجد الذي كنت بنيته ليزيد بن هاشم حين ترك أن يبنيه في الشارع وبناه في الرائغ وحين بلغني أنه يخلط في الكلام ويعين البشرية على المعتزلة.
فلو أراده أبو همام وجد من ثمامة مربداً جميع مساحة الأرض! وكان حين يسوي لك اللفظ لا ينظر في صلاح المعاني من فسادها.
وتمشى رجل إلى الغاضري قال: إن صديقك القادمي قد قطع عليه الطريق.
قال: فأي شيء تريد قال: أن تخلف عليه.
قال: فليس عليه قطع الطريق بل على قطع! وأتى ابن سكاب الصيرفي صديق له يستلف منه مالاً فقال: لو شئت أن أقول لقلت وأن أعتل اعتللت وأن أستعير بعض كلام من يستلف منه إخوانه فعلت.
وليس أرى شيئاً خيراً من التصحيح وقشر العصا وليس أفعل.
فإن التمست لي عذراً فهو أروح لقلبك وإن لم تفعل فهو شر لك.
وضاق الفيض بن يزيد ضيقاً شديداً فقال: والله ما عندنا من شيء نعول عليه وقد بلغ السكين العظم.
والبيع لا يكون إلا مع طول المدة.
والرأي أن ننزل هذه النائبة بمحمد بن عباد فإنه يعرف الحال وصحة المعاملة وحسن القضاء وما لنا من السبب المنتظر فلو كتبت إليه كتاباً لسره ذلك ولسد منا هذه الخلة القائمة الساعة.
فتناول القلم والقرطاس ليكتب إليه كتاب الواثق المدل لا يشك أنه سيتلقى حاجته بمثل ما كان هو المتلقي لها منه - ومضى بعض من كان في المجلس إلى محمد بن عباد ليبشره بسرعة ورود حاجة الفيض إليه.
فأتاه أمر لا يقوم به.
فأمر بالكتابة إليه ليشغله بحاجته إليه عن حاجته إليه.
فكتب إليه: مالي يضعف والدخل قليل والعيال كثير والسعر غال.
وأرزاقنا من الديوان قد احتبست.
وقد تفتحت علينا من أبواب النوائب في هذه الأيام ما لم يكن لنا في حساب.
فإن رأيت أن تبعث إلي بما أمكنك فعجل به فإن بنا إليه أعظم الحاجة فورد الكتاب على الفيض قبل نفوذ كتابه إليه.
فلما قرأه استرجع وكتب إليه: يا أخي تضاعفت على المصيبة حتى جمعت خلة عيالك إلى خلة عيالي.
وقد كنت على الاحتيال لهم.
وسأضطرب في وجوه الحيل غير هذا الاضطراب.
وسأتحرك في بيع ما عندي ولو ببعض الطرح.
فلما رجع الكتاب على ابن عباد سكن وألقي صاحبه في أشد الحركة وأتعب التعب.
وكان رجل من أبناء الحربية له سخاء وأريحية.
وكان يكثر استزارة ابن عباد ويتلف عليه من الأموال من طريق الرغبة في الأدباء وفي مشايخ الظرفاء.
وكان يظن بكرمه أن زيارته ابن عباد في منزله زيادة في المؤانسة.
وقد كان بلغه إمساكه ولكنه لم يظن أنه لا حيلة في سببه.
فأتاه يوماً متطرئاً قال: جئتك من غير دعاء.
وقد رضيت بما حضر.
قال: فليس يحضر شيء.
وقولك: بما حضر لا بد من أن يقع على شيء! قال: فقطعة مالح قال: وقطعه مالح ليس هي شيء قال بلى فنحن نشرب على الريق قال: لو كان عندنا نبيذ كنا في عرس.
قال: فأنا أبعث إلى نبيذ.
قال: فإذا صرت إلى تحويل النبيذ فحول أيضاً ما يصلح للنبيذ! قال: ليس يمنعني من ذلك ومن إحضار النقل والريحان إلا أن أحتسب لك هذه الزورة بدعوة.
وليس يجوز ذلك إلا بأن يكون لك فيها أثر.
فقال محمد: فقد انفتح لي باب لكم فيه صلاح وليس على فيه فساد: في هذه النخلة زوج ورشان.
ولهما فرخان مدركان.
فإن نحن وجدنا إنساناً يصعدها - فإنها سحيقة منجردة - ولم يطيرا - فإنهما قد صارا ناهضين - جعلنا الواحد طباهجة والآخر جردناجاً فإنه يوم فطلبوا في الجيران إنساناً يصعد تلك النخلة فلم يقدروا عليه.
فدلوهم على أكار لبعض أهل الحربية.
فما زال الرسول يطلبه حتى وقع عليه.
فلما جاء ونظر إلى النخلة قال: هذه لا تصعد ولا يرتقي عليها إلا بالتبليا والبربند.
فكيف أرومها أنا بلا سبب فسألوه أن يلتمس لهم ذلك.
فذهب فغبر ملياً.
ثم أتاهم به.
فلما صار في أعلاها طار أحدهما وأنزل الآخر.
فكان هو الطباهج والجردناج وهو الغداء وهو العشاء! وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له يساويه في الأدب ويرتفع عليه في الحال - وكان كثير المال كثير الصامت - يستسلف منه بعض ما يرتفق به إلى أن يأتيه بعض ما يؤمل.
فكتب إليه صديقه هذا يعتذر ويقول: إن المال مكذوب له وعليه.
والناس يضيفون إلى الناس في هذا الباب ما ليس عندهم.
وأنا اليوم مضيق وليست الحال كما نحب.
وأحق من عذر الصديق العاقل.
فلما ورد كتابه على ابن سبابة كتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً.
قال عمرو الجاحظ: احتجنا عند التطويل وحين صار طويلاً كبيراً إلى أن يكون قد دخل فيه من علم العرب وطعامهم وما يتمادحون به وما يتهاجون به شيء وإن قل ليكون الكتاب قد انتظم جمل هذا الباب.
ولولا أن يخرج من مقدار شهوة الناس لكان الخبر عن العرب والأعراب أكثر من جميع هذا الكتاب.
الطعام ضروب.
والدعوة اسم جامع.
وكذلك الزلة.
ثم منه العرس والخرس والإعذار والوكيرة والنقيعة.
والمأدبة اسم لكل طعام دعيت إليه الجماعات.
قال الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر وجاء في الحديث: القرآن مأدبة الله.
وقد زعم ناس أن العرس هو الوليمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: أولم ولو بشاة.
وكان ابن عوف والأصمعي من بعده يذمان عمرو بن عبيد ويقولون: لا يجيب الولائم يجعلان طعام الإملاك والأعراس والسبوع والختان وليمة.
والعرس معروف.
إلا أن المفضل الضبي زعم أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم: لا عطر بعد عروس.
وكان الأصمعي يجعل العروس رجلاً بعينه كان بنى على أهله فلم تتعطر له.
فسمى بعد ذلك كل بان على أهله بذلك الاسم.
ومثل هذا لا يثبت إلا بأن يستفيض في الشعر ويظهر في الخبر.
وأما الخرس فالطعام الذي يتخذ صبيحة الولادة للرجال والنساء.
وزعموا أن أصل ذلك مأخوذ من الخرسة.
والخرسة طعام النفساء.
قالت جارية ولدت حين لم يكن لها من يخدمها ويمارس لها ما يمارس للنفساء: تخرسي لا مخرسة لك.
وفي الخرسة يقول مساور الوراق: إذا أسدية ولدت غلاماً فبشرها بلؤم في الغلام تخرسها نساء بني دبير بأخبث ما يجدن من الطعام وقال ابن قميئة: شركم حاضر وخيركم د ر خروس من الأرانب بكر فالخروس هي صاحبة الخرسة.
والأعذار طعام الختان.
يقال: صبي معذور وصبي معذر جميعاً.
وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد تقاربهم في الأسنان: كنا إعذار عام واحد.
وقال النابغة: فنكحن أبكاراً وهن بإمة أعجلنهن مظنة الإعذار فزعموا أنهم سموا طعام الإعذار بالإعذار للملابسة والمجاورة.
كان الأصمعي يقول: قد كان للعرب كلام على معان.
فإذا ابتدلت تلك المعاني لم تتكلم بذلك الكلام.
فمن ذلك قول الناس اليوم: ساق إليها صداقها.
وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلا وغنماً.
وفي قياس قول الأصمعي أن أصحاب التمر الذين كان التمر دياتهم ومهورهم كانوا لا يقولون: ساق فلان صداقه.
قال: ومن ذلك قول الناس اليوم: " قد بنى فلان البارحة على أهله ".
وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبته وخيمته.
وذلك هو بناؤه.
ولذلك قال الأول: لو نزل الغيث أبنين امرأً كانت له قبة سحق بجاد وكان الأصمعي يعد من هذا أشياء ليس لذكرها هاهنا وجه.
ومن طعامهم الوكيرة.
وهو طعام البناء.
كان الرجل يطعم من يبني له.
وإذا فرغ من بنائه تبرك بإطعام أصحابه ودعائهم.
ولذلك قال قائلهم: خير طعام شهد العشيرة العرس والإعذار والوكيرة ويسمون ما ينحرون من الإبل والجزر من عرض المغنم النقيعة.
قال الشاعر: والعقيقة دعوة على لحم الكبش الذي يعق عن الصبي.
والعقيقة اسم للشعر نفسه.
والأشعار هي العقائق.
وقولهم: عقوا عنه أي احلقوا عقيقته.
ويقولون: عق عنه وعق عليه.
فسمى الكبش - لقرب الجوار وسبب المتلبس - عقيقة.
ثم سموا ذلك الطعام باسم الكبش.
وكان الأصمعي يقول: لا يقولن أحدكم: أكلت ملة بل يقول: أكلت خبزة وإنما الملة موضع الخبزة.
وكذلك يقول في الراوية والمزادة يقول: الراوية هو الجمل.
وزعموا أنهم اشتقوا الراوية للشعر من ذلك.
فأما الدعاء إلى هذه الأصناف فمنه المذموم ومنه الممدوح.
فالمذموم النقرى والممدوح الجفلى.
وذلك أن صاحب المأدبة وولى الدعوة إذا جاء رسوله والقوم في أحويتهم وأنديتهم فقالوا: أجيبوا إلى طعام فلان.
فجعلهم جفلة واحدة وهي الجفالة.
فذلك هو المحمود.
وإذا انتقر فقال: قم أنت يا فلان وقم أنت يا فلان فدعا بعضاً وترك بعضاً فقد انتقر.
قال الهذلي: وليلة يصطلى بالفرث جازرها يخص بالنقرى المثرين داعيها يقول: لا يدعوا فيها أصحاب الثروة وأهل المكافأة.
وهذا قبيح.
وقال في ذلك بعض ظرفائنا: لو كان مكوكان في كفه من خردل ما سقطت واحدة وقال طرفة بن العبد: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر ولما غزا بسطام بن قيس الشيباني مالك بن المنتفق الضبي وأثبته عاصم بن خليفة الضبي شد عليه فطعنه وهو يقول: وهذا وفي الجفلة لا يدعوني ويروى: في الحفلة لا يدعوني.
كأنه حقد عليه حين كان يدعو أهل المجلس ويدعه.
والطعام المذموم عندهم ضربان: أحدهما طعام المجاوع والحطمات والضرائك والسباريت واللئام والجبناء والفقراء والضعفاء.
من ذلك: الفث والدعاع والهبيد والقرامة والقرة والعسوم ومنقع البرم والقصيد والقد والحيات.
فأما الفظ فإنه وإن كان شراباً كريهاً فليس يدخل في هذا الباب.
وكذلك المجدوح.
فأما الفظ فإنه عصارة الفرث إذا أصابهم العطش في المفارز.
وأما المجدوح فإنهم إذا بلغ العطش منهم المجهود نحروا الإبل وتلقوا ألبابها بالجفان كي لا يضيع من دمائها شيء.
فإذا برد الدم ضربوه بأيديهم وجدحوه بالعيدان جدحاً حتى ينقطع فينعزل ماؤه من ثقله كما يخلص الزبد وقال الشاعر: لم تأكل الفث والدعاع ولم تجن هبيداً بجنبة مهتبد وقال أمية بن أبي الصلت: ولا يتنازعون عنان شرك ولا أقوات أهلهم العسوم ولا قرن يقزز من طعام ولا نصب ولا مولى عديم وقال معاوية بن أبي ربيعة الجرمي في الفترة وهو يعير بني أسد وناسا من هوازن وهما ابنا القملية: ألم تر جرماً أمجدت وأبوكم مع الشعر في قص الملبد شارع إذا قرة جاءت يقول: أصيب بها سوى القمل إني من هوازن ضارع والقرامة نحاتة القرون والأظلاف والمناسم وبرادتها.
والعلهز القردان ترض وتعجن بالدم.
والقرة الدقيق المختلط بالشعر.
كان الرجل منهم لا يحلق رأسه إلا وعلى رأسه قبضة من دقيق للأكل.
فهو معيب.
وفي أكل الحيات بقوله ابن مناذر: فإياكم والريف لا يقربنه فإن لديه الحيف والموت قاضيا وقال القطامي في أكلهم القد: تضيفت في طل وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعد ما تلفعت الظلماء من كل جانب فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جائب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت: معشر من محارب ومن المشتوين القد في كل شتوة وإن كان ريف الناس ليس بناضب وقال الراعي: بكى منذر من أن يضاف وطارق يشد من الجوع والإزار على الحشا إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها وقد تكرم الأضياف والقد يشتوي وقد يضيقون في شراب غير المجدوح والفظ في المغازي والأسفار فيمدحون من آثر صاحبه ولا يذمون من أخذ حقه منه.
وهو ماء المصافنة.
والمصافنة مقاسمة هذا الماء بعينه.
وذلك أن الماء إذا نقص عن الري اقتسموه بالسواء.
ولم يكن للرئيس ولا لصاحب المرباع والصفي وفضول المقاسم فضل على أخس القوم.
وهذا خلق عام ومكرمة عامة في الرؤساء.
قال الفرزدق: على ساعة لو أن في القوم حاتماً على جوده ضننت به نفس حاتم وبذلك المذهب من الأثرة مدح الشاعر كعب بن يمامة حين آثر بنصيبه رفيقه النمري فقال: ما كان من سوقة أسقى على ظمإ خمراً بماء إذا ناجودها بردا من ابن مامة كعب ثم عي به زو المنية إلا حرة وقدى أو في على الماء كعب ثم قيل له: رد كعب إنك وراد فما وردا وفي المصافنة يقول الأسدي: كأن أطيطا يا بنة القوم لم ينخ قلائص يحكيها الحني المنقح ولم يسق قوماً فارسي على الحصى صباب الأداوي والمطيات جنح ويزعمون أن الحصاة التي إن غمرها الماء في الإناء كانت نصيب احدهم تسمى المقلة.
وهذا الحرف سمعته من البغداديين.
ولم أسمعه من أصحابنا.
وقد برئت إليك منه.
وقال ابن جحوش في المصافنة: ولما تعاورنا الإداوة أجهشت إلى الماء نفس العنبري الجراضم وآثرته لما رأيت الذي به على النفس أخشى لاحقات الملاوم وقد يصيب القوم في باديتهم ومواضعهم من الجهد ما لم يسمع به في أمة من الأمم ولا في ناحية من النواحي.
وإن أحدهم ليجوع حتى يشد على بطنه الحجارة وحتى يعتصم بشده معاقد الإزار وينزع عمامته من رأسه فيشد بها بطنه وإنما عمامته تاجه.
والأعرابي يجد في رأسه من البرد إذا كان حاسراً ما لا يجده أحد لطول ملازمته العمامة ولكثرة طيها وتضاعف أثنائها.
ولربما اعتم بعمامتين.
ولربما كانت على قلنسوة حدرية.
وقال مصعب بن عمير الليثي: سيروا فقد جن الظلام عليكم فباست امرئ يرجو القرى عند عاصم دفعنا إليه وهو كالذيخ خاطيا نشد على أكبادنا بالعمائم وقال الراعي في ذلك: يشب لركب منهم من ورائهم فكلهم أمسى إلى ضوئها سرى إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها وقد تكرم الأضياف والقد يشتوى فلما أناخوا واشتكينا إليهم بكوا وكلا الخصمين مما به بكى بكى منذر من أن يضاف وطارق يشد من الجوع الإزار على الحشا ومما يدل على ما هم فيه من الجهد وعلى امتداحهم بالأثرة قول الغنوي: إذا الماء بعد اليوم يمذق بعضه ببعض ويبلى شح نفس وجودها وأنا مقار حين يبتكر الغضى إذا الأرض أمست وهي جدب جنودها وقال في ذلك العجير السلولي: من النهديات الماء بالماء بعد ما رمى بالمقاري كل قار ومعتم وقال آخر في مثل هذا: لنا إبل يروين يوماً عيالنا ثلاث فإن يكثرن يوماً فأربع يمدهم بالماء لا من هوانهم ولكن إذا ما قل شيء يوسع على أنها يغشى أولئك بيتها على اللحم حتى يذهب الشر أجمع وقال أبو سعيد الخدري: أخذت حجراً فعصبته على بطني من الجوع وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله.
فلما سمعته وهو يخطب: من يستعف يعفه الله ومن يستعن يعنه الله رجعت ولم أسأله.
قال أعرابي: جعت حتى سمعت من مسامعي دوياً.
فخرجت أريغ الصبد فإذا بمغارة وإذا هو جرو ذئب.
فذبحته وأكلته وادهنت واحتذيت.
ولما قدم المغيرة القادسية على سعد بسبعين من الظهر وعند سعد ضيق شديد من الحال وذكر الأصمعي عن عثمان الشحام عن أبي رجاء العطاردي قال: لما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ في القتل هربنا فاشتوينا فخذ أرنب دفيناً وألقينا عليها جمالنا.
فلا أنسى تلك الأكلة! وكان الأصمعي إذا حدث بهذا الحديث قال: نعم الإدام الجوع ونعم شعار المسلمين التخفيف.
وذكروا عن عبد الملك بن عمير عن رجل من بني عذرة قال: خرجت زائراً لأخوال لي بهجر.
فإذا هم في برث أحمر بأقصى هجر في طلوع القمر.
فذكروا أن أتاناً تعتاد نخلة فترفع يديها وتعطو بفيها وتأخذ الحلقان والمنسبتة والمنصفة والمعوة.
فتنكبت قوسي وتقلدت جفيري.
فإذا قد أقبلت.
فرميتها فخرت لفيها.
فأدركت فقورت سرتها ومعرفتها.
فقدحت ناري وجمعت حطي ثم دفنتها.
ثم أدركني ما يدرك الشباب من النوم.
فما استيقظت إلا بحر الشمس في ظهري.
ثم كشفت عنها.
فإذا لها غطيط من الودك كتداعي طيء وغطيف وغطفان.
ثم قمت إلى الرطب وقد ضربه برد السحر.
فجنيت المعوة والحلقان.
فجعلت أضع الشحمة بين الرطبتين والرطبة بين الشحمتين فأظن الشحمة سمنة ثم سلاءة وأحسبها من حلاوتها شهدة أحدرها من الطور.
وأنا أتهم هذا الحديث لأن فيه ما لا يجوز أن يتكلم به عربي يعرف مذاهب العرب.
وهو من وقال مديني لأعرابي أي شيء تدعون وأي شيء تأكلون قال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين.
فقال المديني: لتهن أم حبين العافية.
وقال الأصمعي: تعرق أعرابي عظماً.
فلما أراد أن يلقيه - وله بنون ثلاثة - قال له أحدهم: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال: أتعرقه حتى لا تجد فيه ذرة مقيلاً.
قال: ما قلت شيئاً! قال الثاني: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال أتعرقه حتى لا تدري ألعامه ذلك هو أم للعام الذي قبله.
قال: ما قلت شيئاً! قال الثالث: أعطينه.
قال: وما تصنع به قال أجعله مخة إدام.
قال: أنت له! وقال الآخر: فإنك لم تشبه لقيطا وفعله وإن كنت أطعمت الأرز مع التمر وقال الآخر: إذا انغاص منها بعضها لم تجد لها دوياً لما قد كان منها مدانيا وإن حاولوا أن يشبعوها رأيتها على الشعب لا تزداد إلا تداعيا معوذة الإرحال لم توف مرقباً ولم تمتط الجون الثلاث الأثافيا ولا اجترعت من نحو مكة سقة إلينا ولا جازت بها العيس واديا أتتنا تزيجها الجاذيف نحونا وتعقب فيما بين ذاك المراديا فقلت: لمن هذي القدور التي أرى تهيل عليها الريح ترباً وسافيا فقالوا: وهل يخفى على كل ناظر قدور رقاش إن تأمل رائيا فقلت: متى باللحم عهد قدوركم فقالوا: إذا ما لم يكن عواريا من أضحى إلى الأضحى وإلا فإنها تكون بنسج العنكبوت كما هيا فلما استبان الجهد لي في وجوههم وشكواهم أدخلتهم في عياليا فكنت إذا ما استشرفوني مقبلا أشاروا جميعاً لجة وتداعيا ومما قالوا في صفة قدورهم وجفانهم وطعامهم مما أنا كاتبه لك.
وهم وإن كانوا في بلاد جدب فإنهم أحسن الناس حالاً في الخصب.
فلا تظنن أن كل ما يصفون به قدورهم وجفانهم وثريدهم وحيسهم باطل.
وحثني الأصمعي قال: سألت المنتجع بن نبهان عن خصب البادية فقال: ربما رأيت الكلب يتخطى الخلاصة - وهي له معرضة - شبعاً.
وقال الأفوه الأودي: تهنا لثعلبة بن قيس جفنة يأوي إليها في الشتاء الجوع وكأنما فيها المذانب حلقة ودم الدلاء على دلوج ينزع وقال معن بن أوس وهو يذكر قدر سعيد بن العاص في بعض ما يمدحه: أخو شتوات لا تزال قدوره تحل على أرجائها ثم ترحل إذا ما امتطاها الموقدون رأيتها لو شك قراها وهي بالجزل تشعل سمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت كهدر الجمال رزما حين تجفل ترى البازل الكوماء فيها بأسرها مقبضة في قعرها ما تجلجل كأن الكهول الشهب في حجراتها تغطرش في تيارها حين يحفل إذا التطمت أمواجها فكأنها غوائب دهم في المحلة قبل إذا احتدمت أمواجها فكأنما يزعزعها من شدة الغل أفكل تظل رواسيها ركوداً مقيمة لمن نابه فيها معاش ومأكل وضاف الفرزدق أبا السحماء سحيم بن عامر أحد بني عمرو بن مرثد فأحمده وذكر في إحماده قدره فقال: سألنا عن أبي السحماء حتى أتينا خير مطروق لسارى وقام إلى سلافة مسلحب رثيم الأنف مربوب بقار تدور عليهم والقدر تغلي بأبيض من سديف الكوم وارى كأن تطلع الترعيب فيها عذارى يطلعن إلى عذارى وقال الكميت في صفة القدر: إوز تغمس في لجة تغيب مراراً وتطفو مرارا كأن الغطامط من غليها أراجيز أسلم تهجو غفارا وأما ما ذكروا من صفات القدور من تعير بعضهم بعضاً فهو كما أنشدني محمد بن يسير قال: لما قال الأول: إن لنا قدراً ذراعان عرضها وللطول منها أذرع وشبار قال الآخر: وما هذه أخزى اله هذه قدراً! ولكني أقول: بوأت للورى فوضعتها برابية من بين ميث وأجرع جعلت لها هضب الرجام وطخفة وغولاً أثافي دونها لم تنزع بقدر كأن الليل شحنة قعرها ترى الفيل طافياً لم يقطع وقدر كحيزوم النعامة أحمشت بأجذال خشب زال عنها هشيمها قال ميسرة أبو الدرداء: وما حيزوم النعامة والله ما تشبع هذه الفرزدق.
ولكني أقول: وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ترى الفيل طافياً لم يفصل وقال عبد الله بن الزبير يمدح أسماء بن خارجة: ألم تر أن المجد أرسل يبتغي حليف صفاء قابلاً لا يزايله تخير أسماء بن حصن فبطنت بفعل العلا أيمانه وشمائله ومما يجوز في هذا الباب وإن لم يكن فيه صفة قدر قول الفرزدق في العذافر ابن زيد أحد بني تميم اللات بن ثعلبة: لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها بأكثر خيراً من خوان العذافر ولو ضافه الدجال يلتمس القرى وحل على خبازه بالعساكر بعدة يأجوج ومأجوج جوعاً لأشبعهم شهراً غداء العذافر وقال ابن عبدل في بشر بن مروان بن الحكم: ولو شاء بشر كان من دون بابه طماطم سود أو صقالبة حمر ولكن بشراً أسهل الباب للتي يكون لبشر عندها الحمد والأجر وقالوا في مناقضات أشعارهم في القدور قال الرقاشي: لنا من عطاء الله دهماء جونة تناول بعد الأقربين الأقاصيا جعلنا ألالاً والرجام وطففة لها فاستقلت فوقهن أثافيا مؤدية عنا حقوق محمد إذا ما أتانا بائس الحال طاويا أتى ابن يسير كي ينفس كربه إذا لم يرح وافي مع الصبح غاديا فأجابه ابن يسير فقال: وثرماء ثلماء النواحي ولا يرى بها أحد عيباً سوى ذاك باديا ينادي ببعض بعضهم عند طلعتي ألا أبشروا هذا اليسيري جائيا وقال ابن يسير في ذلك: قدر الرقاشي لم تنقر بمنقار مثل القدور ولم تفتض من غار لكن قدر أبي حفض إذا نسبت يوماً ربيبة آجام وأنهار فاعترض بينهما أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي يذكر قدر الرقاشي بالهجاء أيضاً فقال: ودهماء تثفيها رقاش إذا شتت مركبة الآذان أم عيال يغص بحيزوم البعوضة صدرها وتنزلها عفواً بغير جعال هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل ربيع اليتامى عام كل هزال وقال فيها أيضاً: رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر ولو جئتها ملأى عبيطاً مجزلاً لأخرجت ما فيها على طرف الظفر يثبتها للمعتفي بفنائهم ثلاث كحظ الثاء من نقط الحبر تبين في محراثها أن عوده سليم صحيح لم يصبه أذى الجمر تروح على حي الرباب ودارم وسعد وتعروها قراضبة الفزر وللحي عمرو نفحة من سجالها وتغلب والبيض اللهاميم من بكر إذا ما تنادوا بالرحيل سعى بها أمامهم الحولى من ولد الذر وقال بعض التميميين وهو بهجو ابن جبار: لو أن قدراً بكت من طول ما حبست على الحفوف بكت قدر ابن جبار ما مسها دسم مذ فض معدنها ولا رأت بعد نار القين من نار والشعوبية والآزاد مردية المبغضون لآل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن فتح الفتوح ورفاغة عيشهم.
وهم أحسن الأمم حالاً مع الغيث وأسوئهم حالاً إذا خفت السحاب.
حتى ربما طبق الغث الأرض باكلإ والماء.
فعند ذلك يقول المصرم والمقتر: مرعى ولا أكولة وعشب ولا بعير وكلاً تيجع له كبد المصرم.
ولذلك قال شاعرهم: فجنبك الجيوش أبا زنيب وجاد على مسارحك السحاب وإذا نظرت في أشعارهم علمت أنهم قد أكلوا الطيب وعرفوه لأن الناعم من الطعام لا يكون إلا عند أهل الثراء وأصحاب العيش.
فقال زياد بن فياض يذكر الدرمك وهو الحواري: ولا قد فتى قيس بن عيلان ماجداً إذا الحرب هرتها الكماة الفوارس فقام إلى البرك الهجان بسيفه وطارت حذار السيف دهم قناعس فصادف حد السيف قباء جلعداً فكاست وفيها ذو غرارين نايس فأطعمها شحماً ولحماً ودرمكاً ولم يثننا عنه النسيم الحنادس وقال: تظل في درمك وفاكهة وفي شواء ما شئت أو مرقه وقال جرير: وقال النمر بن تولب: لها ما تشتهي عسل مصفى وإن شاءت فحواري بسمن ومن أشرف ما عرفوه من الطعام - ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام إلا عبد الله بن جدعان - وهو الفالوذق.
مدحه بذلك أمية بن أبي الصلت فقال: إلى ردح من الشيزى عليها لباب البر يلبك بالشهادة ولهم الثريد.
وهو في أشرافهم عام.
وغلب على هاشم حين هشم الخبز لقومه.
وقد مدح به في شعر مشهور وهو قوله: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف ومن الطعام الممدوح الحيس.
وتزعم مخزوم أن أول من حارس الحيس سويد بن هرمى.
وقال الشاعر: وإذا تكون شديدة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب والخبز عندهم ممدوح.
وكان عبد الله بن حبيب العنبري أحد بني سمرة يقال له آكل الخبز لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن.
وكان سيد بني العنبر في زمانه.
وهم إذا فخروا قالوا: منا آكل الخبز ومنا مجير الطير يعني ثوب بن شحمة العنبري.
قرتني عبيد تمرها وقريتها سنام مصراة قليل ركوبها فهل يستوي شحم السنام إذا شتا وتمر جواثي حين يلقى عسيبها وليس يكون فوق عقر الإبل وإطعام السنام شيء.
والعقر هو النجدة واللبن هو الرسل.
قال الهذلي: لو أن عندي من قريم رجلاً لمنعوني نجدة ورسلا وقال الهزلي: ألا إن خير الناس رسلاً ونجدة وقال المرار بن سعيد الفقعسي: لهم إبل لا من ديات ولم تكن مهوراً ولا من مكسب غير طائل ولكن حماها من شماطيط غارة خلال العوالي فارس غير مائل مخيسه في كل رسل ونجدة ومعروفة ألوانها في المعاقب وقد وصفوا الثريد فقال الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع على أيدى الرجل جمودها وقال آخر: وقال ابن هرم: إلى أن أتاهم بشيزية تعد كواكبها الشبك وقال كامل بن عكرمة: فقرب بينهم خبزاً ركودا كساها الشحم ينهمر إنهمارا يدف بها غلاماه جميعاً تردهما إلى الأرض انهصارا فأصبح سورهم فيها وعلمن لو أن العلم صنفها شيارا فهذا في صفة الثريد.
وقال بشر بن أبي خازم: ترى ودك السديف على لحاهم كلون الرار لبده الصقيع وقال الآخر: جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه وطيب الدهان رأسه فهو أنزع إذا النفر السود اليمانون حاولوا له حوك برديه أرقوا وأوسعوا وقال الزبير بن عبد المطلب: فإنا قد خلقنا إذ خلقنا لنا الحبراة والمسك الفتيت ثيابهم شمال أو عباء بها دنس كما دنس الحميت فميز - كما ترى بين لباس الأشراف وأهل الثروة وغيرهم.
وقال الأعشى: والمشرف العود فأكنافه ما بين حمران فينصوب خير لها إن خشيت جحرة من ربها زيد بن أيوب متكئاً تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب وقال أبو الصلت بن ربيعة: اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً في رأس غمدان داراً منك محلالا وليس هذا من باب الإفراط كقول جران العود حين وصف نفسه وعشيقته فقال: فأصبح في حيث التقينا غنيمةً سوار وخلخال ومرط ومطرف ومنقطعات من عقود تركنها كجمر الغضى في بعض ما تتخطرف ومن ذلك قول عدي بن زيد: يا لبينى أوقدي النار إن من تهوين قد حارا رب نار بت أرقبها تقضم الهندي والغاران أرى في الهوى ناراً لظبية أوقدت يشب ويذكى بعد وهن وقودها تشب بعيدان اليلنجوج موهناً وبالرند أحيناً فذاك وقودها قد ذكرنا الطعام الممدوح ما هو وذكرنا أحد صنفي الطعام المذموم.
والصنف الآخر الجزيرة التي تعاب مجاشع بن درام وكنحو السخينة التي تعاب بها قريش.
قال خداش بن زهير: يا شدةً ما شددنا غير كاذبة على سخينة لولا الليل والحرم وقال عبد الله بن همام: إذاً لضربتهم حتى يعودوا بمكة يلعقون بها السخينا وقال جرير: وضع الخزير فقيل: أين مجاشع فشحا جحافله هجف هبلع والخزير لم يكن من طعامهم.
وله حديث.
والسخينة كانت من طعام قريش.
وتهجى الأنصار وعبد القيس وعذرة وكل من كان يقرب النخل - بأكل التمر.
فقال الفرزدق: لست بسعد على فيه حبرة ولست بعبد حقيبته التمر وتهجا أسد بأكل الكلاب وبأكل لحوم الناس.
والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً ألزمت ذلك القبيلة كلها.
كما تمدح القبيلة بفعل جميل وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها: فتهجوا قريشاً بالسخينة وعبد القيس بالتمر وذلك عام في الحيين جميعاً.
وهما من صالح الأغذية والأقوات.
كما تهجو بأكل الكلاب والناس وإن كان ذلك إنما كان من رجل واحد فلعلك إذا أردت التحصيل تجده معذوراً.
قال الشاعر: يا فقعسي لما أكلته لمه لو خافك الله عليه حرمه فما أكلت لحمه ولا دمه وقال في ذلك مساور بن هند: إذا أسدية ولدت غلاماً فبشرها بلؤم في الغلام تخرسها نساء بني دبير بأخبث ما يجدن من الطعام ترى أظفار أعقد ملقات براثنها على وضم الثمام وقال: بني أسد عن يمحل العام فقعس فهذا إذاً دهر الكلاب وعامها إذا أسدى جاع يوماً ببلدة وكان سمينا كلبه فهو آكله وتهجى أسد وهذيل والعنبر وبأهلة بأكل لحوم الناس.
قال الشاعر في هذيل: وأنتم أكلتم سحفة ابن مخدم زماناً فما يأمنكم أحد بعد تداعوا له من بين خمس وأربع وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد وقال حسان فيهم: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع وسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم فالشاة والكلب والإنسان سيان وهجا شاعر بلعنبر وهو يريد ثوب بن شحمة.
وفيه حديث: عجلتم ما صدكم علاجي من العنوق ومن النعاج حتى أكلتم طفلة كالعاج ولما عير ثوب بن شحمة بأكل الفتى العنبري لحم المرأة سكت إلى أن نزل هو من الجبل فقال: يا بنت عمى ما أدراك ما حسبي إذ لا تجن خبيث الزاد أضلاع إني لذو مرة تخشى بوادره عند الصباح بنصل السيف قراع فهجا ثوب بن شحمة بأكل لحوم المرأة.
وكان ثوب هذا أكرم نفساً عندهم من أن يطعم طعاماً خبيثاً ولو مات عندهم جوعاً.
وله قصص.
ولقد أسر حاتماً الطائي وظل عنده زماناً.
وقال الشاعر يهجوا بأهلة بمثل ذلك: إن عفاقا أكلته باهله تمششوا عظامه وكاهله وأصبحت أم عفاق ثاكله وهجيت بذلك أسد جميعاً بسبب رملة بنت فائد بن حبيب بن خالد بن نضلة حين أكلها زوجها وأخوها أبو أرب.
وقد زعموا أن ذاك إنما كان منهما من طريق الغيظ والغيرة.
فقال ابن دارة ينعى ذلك عليهم: أفي أن رويتم واحتلبتم شكيكم فخرتم وفيم الفقعسي من الفخر ورملة كانت زوجة لفريقكم وأخت فريق وهي مخزية الذكر أبا أرب كيف القرابة بينكم وإخوانكم من لحم أكفالها العجر وقال: عدمت نساء بعد رملة فائد - بني فقعس - تأتيكم بأمان وباتت عروسا ثم أصبح لحمها جلا في قدور بينكم وجفان يا صلت إن محل بيتك منتن فارحل فإن العود غير صليب وإذا دعاك إلى المعاقل فائد فاذكر مكان صدارها المسلوب والآن فادع أبا رجال إنها شنعاء لاحقة بأم حبيب وأبو رجال هذا عمها.
وقال في ذلك معروف الدبيري: إذا ما ضفت ليلا قفعسيا فلا تطعم له أبداً طعاما فإن اللحم إنسان فدعه وخير الزاد ما منع الحراما وهذا الباب يكثر ويطول.
وفيما ذكرنا دليل على ما قصدنا إليه من تصنيف الحالات.
فإن أردته مجموعاً فاطلبه في كتاب الشعوبية فإنه هناك مستقصىً.
والأعرابي إذا أراد القرى ولم ير ناراً نبح فيجاوبه الكلب فيتبع صوته.
ولذلك قال الشاعر: ومسنتنبح أهل الثرا يطلب القرى إلينا وممساه من الأرض نازح وقال الآخر: عوى حدس والليل مستحلس الندى لمستنبح بين الرميثة والحصر وعاو عوى والليل مستحلس الندى وقد زحفت للغور تالية النجم فمنهم من يبرز كلبه ليجيب ومنهم من يمنعه ذلك.
قال زياد الأعجم وهو يهجو بني عجل: وتكلم كلب الحي من خشية القرى وقدرك كالعذراء من دونها ستر وقال آخر: نزلنا بعمار فأشلي كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل فقلت لأصحابي أسر إليهم: إذا اليوم أم يوم القيامة أطول وقال آخر: أعددت للضيفان كلباً ضارياً عندي وفضل هراوة من أرزن وقال أعشى بن تغلب: إذا حلت معاوية بن عمرو على الأطواء خنقت الكلابا وأنشدني ابن الأعرابي وزعم أنه من قول المجنون: ونار قد رفعت لغير خير رجاه لمن تأوبني الرعا تأوبني طويل الشخص منهم يجر ثقاله يرجو العشا فكان عشاءه عندي خزير بتمر مهينة فيه النوى أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل وقال المرار الحماني في كلبه: ألف الناس فما ينبحهم من أسيف يبتغي الخير وحر وقال عمران بن عصام: لعبد العزيز على قومه وغيرهم منن غامره فبابك ألين أبوابهم ودارك مأهولة عامرة وكلبك آنس بالمعتفين من الأم بابنتها الزائره وكفك حين ترى السائلي ن أندى من الليلة الماطرة وفي أنس الكلاب بالناس لطول الرؤية لهم شعر كثير.
وقال الشاعر: يا أم عمرو أنجزي الموعودا وارعي بذاك أمانة وعهودا ولقد طرقت كلاب أهلك بالضحا حتى تركت عقورهن رقودا رأتني كلاب الحي حتى ألفني ومدت نسوج العنكبوت على رحلي وقال الآخر: بات الحويرث والكلاب تشمه وسرت بأبيض كالهلال على الطوى هذا البيت يدخل في هذا الباب.
وقال الآخر: لو كنت أحمل خمراً يوم زرتكم لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك تفغمني والعنبر الورد أذكيه على النار فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني وكان يعرف ريح الزق والقار وقال هلال بن خثعم: إني لعف عن زيارة جارتي وإني لمشنوء إلى اغتيابها إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءوراً ولم تأنس إلى كلابها وما أنا بالداري أحاديث بيتها ولا عالم في أي حوك ثيابها وقال ابن هرمة في فرح الكلب بالضيف لعادة النحر: وفرحة من كلاب الحي يتبعها محض يزف به الراعي وترعيب وقال ابن هرة: فجاء خفي الشخص قد رامه الطوى بضربة مسنون الغرارين قاضب فرحبت واستبشرت حين رأيته وتلك التي ألقى بها كل ثائب وفي منع الكلب من النباح يقول الراعي في الحطيئة: إلا قبح الله الحطيئة إنه على كل ضيف ضافه فهو سالح دفعت إليه وهو يخنق كلبه ألا كل كلب - لا أبا لك! نابح بكيت على مذق خبيث قريته ألا كل عبسي على الزاد نائح وقد قالوا في صفة أبواب أهل المقدرة والثروة إذا كانوا يقومون بحق النعمة.
قال الرجز: إن الندى حيث ترى الضغاطا وقال الآخر: يزدحم الناس على بابه والشرع السهل كثير الزحام وقال الآخر: وإذا افتقرت رأيت بابك خالياً وترى الغني يهدي لك الزوارا وليس هذا من الأول إنما هذا مثل قوله: ألم تر بيت الفقر يهجر أهله وبيت الغني يهدي له ويزار إذا ما قل مالك كنت فرداً وأي الناس زوار المقل والعرب تفضل الرجل الكسوب والغر الطلوب ويذمون المقيم الفشل والدثر والكسلان.
ولذلك قال شاعرهم وهو يمدح رجلاً: شتى مطالبه بعيد همه جواب أودية برود المضجع ومدح آخر نفسه فقال: فإن تأتيني في الشتاء وتلمسا مكان فراشي فهو بالليل بارد وقال آخر: إلى ملك لا ينقض النأي عزمه خروج تروك للفراش الممهد وقال الآخر: فذاك قصير الهم يملأ عزمه من النوم إذ ملقى فراشك بارد وقال الآخر: أبيض بسام برود مضجعه اللقمة الفرد مراراً تشبعه وهم يمدحون أصحاب النيران ويذمون أصحاب الإخماد.
قال الشاعر: وما إن كان أكثرهم سواماً ولكن كان أرحبهم ذراعا وقال مزرد بن ضرار: فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت بعلياء نشر للعيون النواظر جعلها شقراء ليكون أضوء لها.
وكذلك النار إذا كان حطبها يابساً كان أشد لحمرة ناره.
وإذا كثر دخانه قل ضوءه.
وقال الآخر: ونار كسجر العود يرفع ضوءها مع الليل هبات الرياح الصوارد وكلماكان موضع النار أشد ارتفاعاً كان صاحبها أجود وأمجد لكثرة من يراها من البعد.
ألا ترى النابغة الجعدي حين يقول: منع الغدر فلم أهمم به وأخو الغدر إذا هم فعل خشية الله وأني رجل إنما ذكرى كنار بقبل وقالت الخنساء السلمية: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وليس يمنعني من تفسير كل ما يمر إلا اتكالي على معرفتك.
وليس هذا الكتاب نفعه إلا لمن ومما يدل على كرم القوم أيمانهم الكريمة وأقسامهم الشريفة.
قال معدان بن جواس الكندي: إن كان ما بلغت عني فلامني صديقي وحزت من يدي الأنامل وكفنت وحدي منذراً في ردائه وصادف حوطاً من أعادي قاتل وقال الأشتر مالك بن الحارث في مثل ذلك أيضاً: بقيت وحدي وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشن على ابن حرب غارة لم تخل يوماً من نهاب نفوس خيلاً كأمثال السعالي شذباً تغدو ببيض في الكريهة شوس حمى الحديد عليهم فكانت لمعان برق أو شعاع شموس وقال ابن سيحان: حرام كنتي مني بسوء وأذكر صاحبي أبداً بذام لقد أحرمت ود بني مطيع حرام الدهن للرجل الحرام وحرهم الذي قد ستروه ومجلسهم بمعتلج الظلام وإن جنف الزمان مددت حبلاً متيناً من حبال بني هشام وريق عودهم أبداً رطيب إذا ما أغبر عيداناللئام