السمكة (1)
السمكة
بقلم
مصطفى صادق الرافعي
اعتنى به
محمد حامد محمد
٤
ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي، زاده الله أدبا.
ما أثمر أدبك، ولله ما ضمن لي قلبك، لا أقارضك ثناء بثناء، فليس ذلك
شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أعدك من خلَّص الأولياء، وأقدم صفك
على صف الأقرباء. وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق
الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام ح سان في الأوائل، والسلام.
٥ شوال سنة ١٣٢١
محمد عبده
٥
حدث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصلْت في مدينة "بلخ"
سنة ثلاثين ومائتين، وعالمها يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن ١ الزاهد
صاحب المواعظ والحكم؛ وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء
قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا.
وكان يقال له عندهم: "لقمان هذه الأمة"؛ لما يعجبهم من حكمه في
الزهد والموعظة، وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئا كثيرا،
كقوله: من دخل في مذهبنا هذا "يعني الطريق" فليجعل على نفسه أربع
خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت
أخضر؛ فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت
الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض "يعني
لبس المرقعة والخلق من الثياب".
وقلت يوما لصاحبه وتلميذه "أبي تراب" وجاريته في تأويل هذا
الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء؛
فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه
دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواا
ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو
احتمال سواد الوجه عند الناس، فهو الموت الأسود؛ وأما مخالف ة النفس
فهي كإضرام الناس فيها، فذاك الموت الأحمر.
١ ھو حاتم بن یوسف شیخ خراسان وواعظھا، توفي سنة ٢٣٧ للھجرة.
٦
قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات ار في مسجد "بلخ" والناس
متوافرون ينتظرون "لقمان الأمة" ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث
عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت أبو تراب وقال: أنت
رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشرا الحافي وفلانا وفلانا، فقم فحدث
الناس عنهم، فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوة. ثم أخذ بيدي إلى
الأسطوانة التي يجلس إليها إمام خرسان فأجلسني ثمة وقعد بين يدي.
وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي!
البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى، فقلت
في نفسي: والله ما في الموت الأحمر والأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس
عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه، وإنما يجب أن يكون
كما يجب أن يكون؛ ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله، ليكون
عملا فيتحول في النفوس الأخرى عملا ولا يبقى كلاما؛ وإنه ليس الوعظ
تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في
كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى كأن الدم
المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه.
وكنت رأيت رؤيا "ببلخ" تتصل بقصة قائمة في بغداد، فقصصتها
عليهم، فكانت القصة كما حكيتها: أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة
ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط مترلي قحطا شديدا جمع علي الحاجة
والضر والمسكنة، فلو انكمشت الصحراء ادبة فصغرت ثم صغرت حتى
ترجع أذرعا في أذرع، لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من
بغداد.
٧
وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين
السحب، ومرت الشمس على دراي في بغداد مرورها على الورقة الجافة
المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي، إذ لم
يكن في الدار إلا تراا وحجارا وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل
صغير، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا كما بط الأرض،
فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذانا فنقرض الخشب! وكان جوع الصبي يزيد
المرأة ألما إلى جوعها، وكنت ما كالجائع بثلاثة بطون خاوية.
فقلت في نفسي: إذا لم تأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها.
وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها، وإن كان خروجي منه
كالخروخ من جلدي: لا يسمى إلا سلخا وموتا؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن
حمل من معركة؛ فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف
والأسنة التي عملت فيها.
ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن
السماء تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما
قضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله "تعالى"، وجرى لساني ذا
الدعاء: "اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي
يصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضا بقضائك، وأسألك القوة على
الطاعة والرضا يا أرحم الراحمين".
ثم جلست أتأمل شأني، وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من
أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا ارتفع الضحى وابيضت
الشمس جاءت حقيقة الحياة، فخرجت أتسبب لبيع الدار، وابنعثت وما
أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني "أبو نصر الصياد" وكنت
٨
أعرفه قديما، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار؛ فقد ساءت الحال
وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئا يمسكني على يومي هذا بالقوام من
العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.
فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثرك لاحق
بك إلى المترل. ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى، وقال: إما والله
بركة الشيخ.
قلت: وما الشيخ وما القصة؟
قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناس من صلاة
الجمعة، فمر بي أبو نصر بشر الحافي ٢ فقال: ما لي أراك في هذا الوقت ؟
قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله
المستعان! احمل شبكتك وتعال إلى الخندق؛ فحملتها وذهبت معه، فلما
انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين. ففعلت، فقال: سم الله -
تعالى- وألق الشبكة. فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلت
أجره فشق علي؛ فقلت له: ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة، فجاء
وجرها معي، فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمنا وعظما وفراهة.
فقال: خذها وبعها واشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني
رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت
الشيخ فقلت أهدي له شيئا، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه
الحلوى، وأتيت إليه فطرقت الباب، فقال: من؟ قلت: أبو نصر! قال: افتح
وضع ما معك في الدهليز وادخل. فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد
٢ ھو الزاھد العظیم بشر بن الحارث المعروف بالحافي، توفي سنة ٣٢٧ للھجرة وكان
واحد الدنیا في ورعھ وتقواه؛ وقیل لھ: "الحافي" لأنھ كان في حداثتھ یمشي إلى طلب
العلم حافیًا، إجلالًا لحدیث النبي صلى الله علیھ وسلم.
٩
لله على ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئا وقد أكلوا وأكلت ومعي
رقاقتان فيهما حلوى.
قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! اذهب
كله أن وعيالك.
قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفا
لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني
بمعانيها شبعا ليس من هذه الدنيا، كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة؛
وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن
البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة،
فإذا استقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس
كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على
قلوبنا، فنصبح مهيئين لهذه الشياطين، عاملين لها، ثم عاملين معها، فتدخلنا
مداخل السوء في هذه الحياة، وتقحمنا في الورطة بعد الورطة، وفي الهلكة
بعد الهلكة.
وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، ولا تحوم إلا على
رائحة تجذا، فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه، تفرقت ولم تجتمع، وإذا
ألمت الواحدة منها بعد الواحدة لم تثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا
الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت. لكان للدنيا في أنفسنا
شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن
وأطهر من أعمالنا.
فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة "التلذذ" وبطرده من نفسه هذا
اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها، وصلح له دينه، وخلصت نفسه
شارك الموضوع