السمكة (2)

للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلا وضع في نفسه امرأة يعشقها، لصارت
الدنيا كلها في نفسه كالمخدع، ما فيه إلا المرأة وحدها بأسباا إليه وأسبابه
إليها.
وقد كنت سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: "لولا
أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات".
فما فهمت -والله- معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة، وقد علمنيها
هذا الصياد العامي؛ فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ
المستقر في القلب استقرار غرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من
هذه المعاني؛ فقد أمن منازعتها له وشغلها إياه، فيصبح فوقها لا بينها؛ ومتى
صار القلب فوق الشهوات ولم يجد من ألفاظها ما يعميه ويعترض نظره إلى
الحقائق، انكشفت له هذه الحقائق فانكشف له الملكوت؛ فإذا وقع بعد في
واحدة من اللذات ولو "كالرقاقتين والحلوى"، استعلت الأشياء عليه
فحجبته، وعاد بينها أو تحتها، وعمي عمى اللذة؛ والحجاب على البصر
كأنه تعليق العمى على البصر.
وكنت لا أزال أعجب من صبر شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضرب بين
يدي المعتصم بالسياط حتى غشي عليه ٣ فلم يتحول عن رأيه؛ فعلمت الآن
من كلمة السمكة أنه لم يجعل من نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف
للصبر معنى الصبر الآدمي؛ ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان لجزع
وتحول، ولو ضرب ضرب الإنسان لتألم وتغير؛ ولكنه وضع في نفسه معنى
ثبات السنة وبقاء الدين، وأنه هو الأمة كلها لا أحمد بن حنبل، فلو تحول
٣ كان ھذا في سنة ٢١٩ وقد أرادوا الإمام العظیم على القول بخلق القرآن فلم یقل بھ،
فأفتى القاضي ابن أبي دؤاد بقتلھ وشغب علیھ. ثم ضرب بین یدي المعتصم، فلما صمم
ولم یجب أطلقھ المعتصم وندم على ضربھ.
١١
لتحول الناس، ولو ابتدع لابتدعوا؛ فكان صبره صبر أمة كاملة لا صبر
رجل فرد، وكان يضرب بالسياط ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه
بالمقاريض ونشروه بالمناشير لما نالوا منه شيئا؛ إذ لم يكن جسمه إلا ثوبا
عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير.
هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل، ولكنهم يروا أمانات قد ائتمنوا
عليها من الله لتبقى م معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعا
بيد الله، ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم وهو يريد شيخنا
على غير رأيه وعقيدته إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير
التفاح.
قال أحمد بن مسكين: وأخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله
هذه الدنيا! إن من هواا على الله أن الإنسان فيها يلبس وجهه ما يلبس
نعله. فلو أن إنسان كانت له نظرة ملائكية ثم اعترض الخلق ينظر في
وجوههم. لرأى عليها وحولا وأقذارا كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح،
ولعله كان لا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصباها من الرجال
والنساء، إلا كالأحذية العتيقة.
ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ، ورأيتهما في يدي
كالوثيقتين بخير كثير؛ فقلت: على بركة الله. ومضيت إلى دراي، فلما
كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظرت إلى المنديل وقالت: يا
سيدي، هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئا -
يرحمك الله- ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها؛ حسبت فيها خشوع ألف
عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا؛ بل ما أظن ألف عابد
يستطيعون أن يروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع
١٢
يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين، في
عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي
وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ
بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه!
قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض
تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه، والناس عمي لا يبصروا،
وكأم يمرون ا في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك؛ لو سئلت
فضلت عليه الإصطبل الذي هي فيه.
وذكرت امرأتي وابنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في
قلبي معنى الزوجة والولد، بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما
عن قلبي ودفعت ما في يدي للمرأة وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك، ووالله
ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام؛
ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك، فدمعت عيناها، وأشرق وجه
الصبي، ولكن طم على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة، ولا
للبسمة معنى البسمة.
وقلت في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أصب طعاما، فقد كان أبو بكر
الصديق يطوي ستة أيام، وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن
حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم؛ ولكن من للمرأة وابنها بمثل عقدي
ونيتي؟ وكيف لي ما؟
ومشيت وأنا منكسر منقبض، وكأني نسيت كلمة الشيخ: "لو أطعمنا
أنفسنا هذا ما خرجت السمكة". فذكرا وصرفت خاطري إليها وشغلت
نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع اثنين لحرمت خمس
١٣
فضائل ٤ وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل
هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا
كما صنعت.
وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى،
فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها، فأنا
كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحا، فقال: يا أبا محمد، ما
يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى، قلت: سبحان الله! من أين خرجت
السمكة يا أبا نصر؟
قال: إني لفي الطريق إلى مترلك، ومعي ضرورة القوت أخذا
لعيالك، ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد
من أهله، ومعه أثقال وأحمال، فقلت له: أنا أدلك. ومشيت معه أسأله عن
خبره وشأنه عند أبيك. فقال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودعه
مالا من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال ثم ترك البصرة إلى خراسان،
فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة، واستظهر بعد الخذلان،
وأقبل جده بالثراء والغنى؛ فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل، فجاءك بالمال
وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة، وإلى ذلك طرائف وهدايا.
قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة!
فقلت: صدق الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة"! فلو أن
هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر، في هذه الطريق، في هذا اليوم، في
٤ یرید جوعھ، وجوع امرأتھ، وجوع ابنھ، ثم شبع ھذه المرأة، وشبع ابنھا، فھذه خمس
فضائل.
١٤
هذه الساعة، لما اهتدى إلي؛ فقد كان أبي مغمورا لا يعرفه أحد وهو حي؛
فكيف به ميتا من وراء عشرين سنة؟
وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة؛ فلم تكن لي همة إلا البحث عن
المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال،
وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص،
حتى تمولت وتأثلت.
وكأني قد أعجبتني نفسي، وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة
بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة
فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون
الأعظم على الإنسان الضعيف، يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون.
وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سجدت البهائم شكرا لله أنه لم
يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبدام فهم يحملون أوزارهم
على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها
مخزيات!
وقيل: وضعت الموازين. وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في
كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات ورجحت
السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن.
ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كانت أصنعه فإذا تحت كل
حسنة شهوة خفية من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند
الناس وغيرها، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عني حجتي، إذ الحجة ما يبينه
الميزان، والميزان لم يدل إلا على أني فارغ.
وسمعت الصوت: ألم يبق لي شيء؟ فقيل: بقي هذا.
١٥
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت ما على
المرأة وابنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة
فما أغنت عني، ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئا معلقا، كالغمام حين
يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك.
ووضعت الرقاقتان، وسمعت القائل: لقد طار نصف ثواما في ميزان
أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالا شديدا، حتى لو كسرت نصفين لكان
أخف علي وأهون.
بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت مترلة ورجحت بعض
الرجحان.
وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا
هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو يترل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى
اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة.
وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف
في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، ووضعت غرغرة عينيها في
الميزان ففارت، فطمت كأا لجة، من تحت اللجة بحر؛ وإذا سمكة هائلة قد
خرجت من اللجة وقع في نفسي أا روح تلك الدموع، فجعلت تعظم
ولا تزال تعظم، والكفة ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول:
قد نجا!
وصحت صيحة انتبهت لها، فإذا أنا أقول: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما
خرجت السمكة! ".
١٦
قال أحمد بن مسكين: انتشر حدي ث السمكة في أهل "بلخ"،
واستفاض بينهم، وكنت قصصته عليهم يوم السبت، فلما دار السبت من
أسبوعه لقيني شيخهم حاتم بن يوسف "لقمان الأمة" ومعه صاحبه أبو
تراب، فقال: يا أحمد! لكأنك في هذه المدينة قمر طلع بليل فلا يعظ الناس
في يوم السبت غيرك؛ ومن سمع فكأنه عاين، وليس على ألسنة أهل بلخ
منذ تحدثت إلا بشر وابن حنبل، ولا على بال أحد منهم إلا موعظتك
وحديثك.
والكلام عن الصالحين في مثل ما وصفت وحكيت قرب من
حقائقهم، وسمو إلى معانيهم، وليس في القول باب له موقع كموقع القصة
عن هؤلاء الذين يخلقهم الله في البشرية خلق النور: يضيء ما حوله من
حيث يرى، ويعمل فيما حوله من حيث لا يرى، وفي ظاهره الجمال
والمنفعة. وفي باطنه القوة والحياة. ولست أقول لك: اذهب فحدث الناس،
ولكني أقول: اذهب فأعط الناس عقلا من الحديث.
قال ابن مسكين: فلما صلينا العصر، قدمني أبو تراب فجلست في
مجلسي ذاك، وهتف الناس يريدون الحديث عن بشر الحافي وما سقط لي
من أخباره، على الطريقة التي حدثتهم ا من قبل، فابتدأت بذكر موته -
رحمه الله- وأن يومه كأنما اجتمع له أهل خمس وسبعين سنة ، إذ خرجت
جنازته بعد صلاة الصبح، فلم يحصل في قبره إلا في الليل مما احتشد في
طريقه من الخلق، حتى لكأن في نعشه سرا من أسرار الجنة يطالعهم به
الموت فخرجوا ينظرون إليه، وكانوا يصيحون في جنازته: هذا -والله-
شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.
١٧
ثم قلت: حدثني حسين المغازلي ٥: أن بشرا -رحمه الله- كان لا يأكل
إلا الخبز تورعا عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل والأي سر،
وكاني يقول في ذلك يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة. وسئل مرة:
بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إداما. وقد أعانه على
ذلك أن لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصا في نفسه حتى فضل الإمام أحمد
بن حنبل بأشياء: منها أنه له أهلًا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجت تم
نسكك، فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه
النية في نفسه أفضل من زواجه.
وكان مع هذا لا يؤاكل أحدا، ولا يسعى إلى لقاء أحد، حتى أنه لما
رغب في مؤاخاة الزاهد العظيم "معروف الكرخي"، أرسل إليه "الأسود بن
سالم" وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: إن بشر بن الحارث يريد
مؤاخاتك وهو يستحيي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن
تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد ا؛ إلا أن يشترط فيها
شروطا: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه
مزاورة ولا ملاقاة، فقال معروف: أما أنا فإذا أحببت أحدا لم أحب أن
أفارقه ليلا ولا ارا، وأزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل
حال؛ وأنا أعقد لبشر أخوة بيني وبينه، ولكني أزوره متى أحببت، وآمره
بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي.
قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفا في بغداد، لا
يجهله أحد من أهلها، إذ لم يكن لبغداد إمام غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان
٥ نسبة إلى عمل المغازل، وكان حسین ھذا صدیقا لبشر، وكان بشر یعمل المغازل
ویعیش من ثمنھا، ومن كلامھ لابن اختھ عمر: یا بني، اعمل بیدك؛ فإن أثره في الكفین
أحسن من أثر السجدة بین العینین. ھكذا كانوا رحمھم الله.
١٨
أكثر عجبي حين كنت عنده يوما وقد زاره "فتح الموصلي"، فقام فجاء
بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام،

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة